الأزمة في فرنسا ـ "القنبلة الموقوتة" التي تهدد أوروبا!
١٣ سبتمبر ٢٠٢٥
دخلت الأزمة السياسية والاجتماعية التي تعصف بفرنسا في نفق غير مسبوق يغلب عليه عدم اليقين، في غياب أي بدائل في الأفق المنظور، من شأنها العمل على تنفيذ إصلاحات عميقة تعيد للبلاد توازنها. وخرجت احتجاجات شعبية عمّت مدن البلاد مع بدأ رئيس الوزراء الجديد، سيباستيان لوكورنو لمهامه. وبينما كان يؤدي مراسم تسلمه للمنصب في قلب العاصمة باريس، اشتعلت الشوارع بمواجهات عنيفة بين المتظاهرين وقوات الأمن. وفي أول خطاب له، أقر لوكورنو البالغ من العمر 39 عامًا، بضرورة التغيير الجذري، قائلاً "علينا أن نُحدث قطيعة، ليس فقط في الشكل والمنهج، بل أيضا في المضمون"، مشددًا على أهمية ردم الهوة المتزايدة بين النخب السياسية والمواطنين.
لوكورنو، الذي شغل منصب وزير الدفاع سابقًا ويُعد من المقربين منالرئيس إيمانويل ماكرون، تعهد بأن تكون حكومته أكثر "إبداعًا، فنيةً، وجديةً" في تعاطيها مع المعارضة. لكنه لم يُفصح كثيرًا عن تفاصيل التوجهات الجديدة، تاركًا الغموض يخيّم على ملامح المرحلة المقبلة، في وقت وصلت فيه شعبية الرئيس ماكرون إلى الحضيض.
المخاطر المرتبطة بالأزمة الفرنسية، تكمن في تداعياتها المحتملة على كامل البنيان الأوروبي في وقت يتعثر فيه الاقتصاد الألماني والبريطاني. فرنسا أحد "محركات" الرئيسية للتكتل القاري تجد نفسها على مفترق طرق غير مسبوق. فهل تذهب الأزمة إلى حدّ تقديم الرئيس ماكرون لاستقالته؟ بهذا الصدد كتبت صحيفة "التايمز" اللندنية معلقة (التاسع من سبتمبر/ أيلول 2025) "الرئيس إيمانويل ماكرون هو من فجّر الأزمة السياسية في فرنسا، من خلال الدعوة إلى انتخابات مبكرة لم تكن ضرورية، وأسفرت عن انقسام الجمعية الوطنية إلى ثلاثة جبهات: اليسار، الوسط، واليمين المتطرف. والآن، يبحث ماكرون عن شخصية سياسية جديدة تقبل بتولي رئاسة الحكومة، ولو على حساب تضحيتها من أجل تنفيذ سياسة التقشف. أما ماكرون نفسه، فلا ينوي الاستجابة لدعوة مارين لوبان، زعيمة حزب "التجمع الوطني" الشعبوي، بتقديم استقالته قبل انتهاء ولايته الثانية التي تمتد رسميًا حتى عام 2027".
"لديكم قدرة على إسقاط الحكومة لا على إسقاط الحقيقة"
في خطاب الوداع أمامالجمعية الوطنية(البرلمان) قبيل التصويت على حجب الثقة عن حكومته، قال رئيس الوزراء المستقيل فرانسوا بايرو (الثامن من سبتمبر/ أيلول) موجها كلامه للمعارضة "لديكم القدرة على إسقاط الحكومة، لكن ليس لديكم القدرة على إسقاط الحقيقة". لا شك أن كلامه لا يخبو من وجاهة، فالضحايا الحقيقيون للصدام القوي بين مطالب الشعب الفرنسي، والعقبة التي لا يمكن تجاوزها والمتمثلة في الدين العام، هم شباب فرنسا. وأضاف بايرو أن البلاد أصبحت، بعد 51 عامًا من الاقتراض المتواصل، مدمنة على أموال الآخرين. وقد قوبلت كلماته بصيحات استهجان من قبل النواب، ما يؤكد مرة أخرى صمود ثقافة سياسية فرنسية راسخة، ترفض مواجهة الحقيقة بشأن الوضع الاقتصادي. إذ تحقق ما كان يتوقعه المراقبون، إذ حجب النواب الفرنسيون الثقة عن حكومة بايرو بعد أقل من تسعة أشهر من توليها لمهامها. وصوّت 364 نائبا لصالح حجب الثقة، بينما أبدى 194 فقط تأييدهم لبايرو الذي أعلن أن حكومته تتحمل مسؤولية مشروع ميزانية للعام 2026 والتي تتضمن اقتطاعات بقيمة 44 مليار يورو.
وبهذا الشأن كتبت صحيفة "هاندلسبلات الاقتصادية الألمانية معلقة (الثامن من سبتمبر / أيلول) "لا توجد دولة في أوروبا يتناقض فيها الوضع بين المتمنيات والواقع، وبين مستويات التميز ودرجة متوسط، مثل فرنسا. فهي القوة الأوروبية الوحيدة المتبقية التي لا تزال تطالب بدور عالمي شامل، إلا أن حكوماتها تفشل باستمرار لأن شعبها لا يريد تقبّل الواقع، كما هو الحال مثلاً عند محاولة خفض مستوى معاشات التقاعد إلى مستوى مستدام. السياسيون في ألمانيالهم معرفة بهذا النوع من المعضلات، ولهذا السبب ينبغي عليهم دعم جيرانهم الفرنسيين بأفضل ما يمكن، سواء على مستوى الاتحاد الأوروبي أو من خلال أن يكونوا قدوة ويدفعوا قدماً بالإصلاحات التي تنسجم مع جدية هذا الوضع".
فرنسا قنبلة أوروبية موقوتة تهدد التكتل القاري
الأزمة الفرنسية الحالية تذكر إلى حد كبير بتفاقم ديون منطقة اليورو التي اندلعت عام 2010، لكن الفرق بين تلك الفترة وأزمة اليوم، هي أن الأخيرة لا تضرب أطراف التكتل (اليونان)، بل قلبه، ففرنسا توصف إلى جانب ألمانيا في الأدبيات الأوروبية بمحرك التكتل، وأحد محاوره الرئيسية. ومن يعتقد أن الأزمة فرنسية محضة فهو واهم لأنها تشمل أيضا، وإن بأشكال مختلفة، ألمانيا وحتى بريطانيا التي غادرت الاتحاد الأوروبي. فتراجع القدرات المالية للدولة والقلق من فقدان الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية في كل أطراف التكتل، جعلت أحزاب اليمين المتطرف تكتسب قوة مطردة. هذا التطور بدأ قبل بريكسيت وقبل فترة ترامب الرئاسية الأولى، وانتشر فيما بعد في العديد من الديمقراطيات الغربية. بولندا، إيطاليا، النمسا، هولندا والمجر. في الحالة الفرنسية قد يكون الرئيس (ة) المقبل (ة) من اليمين المتشدد.
صحيفة "إل موندو" الإسبانية كتبت (التاسع من سبتمبر / أيلول) معلقة "الأزمة في فرنسا تُضعف الاتحاد الأوروبي. استقالة بايرو (..) تعمّق الشلل السياسي (..) وتؤجّل الإصلاحات العاجلة الضرورية لمنع الانهيار الاقتصادي لإحدى القوى الدافعة في أوروبا (..) كما أنها تحرم إيمانويل ماكرون من الأوكسجين السياسي: فالرئيس يخسر بذلك رابع رئيس حكومة خلال ولايته. وتُجبره هذه الاستقالة على مواجهة سيناريوهين لمحاولة حلّ المعضلة المستعصية في الجمعية الوطنية، التي أصبحت مستقطبة بين اليمين المتطرف واليسار المتطرف. إما أن يبحث عن شخصية توافقية يمكنها الحصول على دعم المحافظين (الجمهوريين) والاشتراكيين، الذين هم اليوم في حالة عداء (..)، أو أن يدعو إلى انتخابات مبكرة، والتي قد تنتهي بمزيد من الجمود أو حتى بفوز مارين لوبان في الرئاسيات المقبلة. تؤكد الأزمة الجديدة على المشكلة البنيوية في السياسة الفرنسية، والمتمثلة في صعوبة تنفيذ إجراءات غير شعبية ولكن لا غنى عنها، في لحظة تتطلب فيها عملية تجديد أوروبا انضباطًا ماليًا. وخاصة أن الأمر يتعلق بإعادة ترتيب الأولويات، بما في ذلك زيادة الإنفاق الدفاعي، وهو ما يتطلب ليس فقط الاستقرار، بل أيضًا دورًا قياديًا من باريس".
غضب شعبي، احتجاجات عنيفة ويمين متشدد
في الوقت الذي كان فيه سيباستيان لوكورنو يُنصَّب رسميًا في مهامه الجديدة، كان عشرات الآلاف من المتظاهرين يملؤون شوارع المدن الفرنسية، رافضين خطط التقشف التي ورثتها حكومته عن سابقتها. دعوات الاحتجاج انطلقت من تحالفات غير مركزية، شاركت فيها تيارات يسارية، ونشطاء "السترات الصفراء"، ونقابات كبيرة مثل نقابة عمال السكك الحديدية. الاحتجاجات تخللتها أعمال شغب، تم خلالها إحراق مبانٍ، ومحاولات اقتحام محطات قطارات مثل "غار دو نور" في باريس، ما دفع السلطات لنشر نحو ثمانين ألف عنصر أمن، فيما أعلن وزير الداخلية عن اعتقال أكثر من 470 شخصًا، بينهم قرابة 200 في باريس وحدها. الشرطة قدّرت أعداد المحتجين بنحو 175 ألفًا، بينما تحدثت نقابة "سي.جي.تي" عن ربع مليون مشارك في مختلف مدن البلاد، من مارسيليا إلى ليون وتولوز ورين وغيرها.
وبهذا الصدد علّقت صحيفة "داغنز نيهيتر" السويدية الليبرالية (التاسع من سبتمبر) وكتبت: "الرئيس الفرنسي هو القوة الدافعة لما يسمى بـ"تحالف الراغبين" الذي يقوم على فكرة أن على أوروبا إرسال جنود لضمان السلام في أوكرانيا. لكن، هل يستطيع هو نفسه تحقيق ذلك؟ في الوقت الراهن، ليس بمقدوره حتى تمرير الموازنة العامة في البرلمان. السؤال هو: ماذا سيحدث بعد ماكرون؟ حزب "التجمع الوطني" المعادي للأجانب، المناهض للاتحاد الأوروبي، والمدعوم سابقاً من فلاديمير بوتين، يقف على عتبة السلطة (..) في غضون سنوات قليلة، قد يدخل "اليد اليمنى" لمارين لوبان، جوردان بارديلّا، قصر الإليزيه، ونايجل فاراج إلى مقر رئاسة الوزراء في 10 داونينغ ستريت. بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة هي الدول الثلاث التي شكلت نواة الغرب لأكثر من قرن، وكانت مستعدة للقتال من أجل الحرية والديمقراطية".
ملامح انهيار الجمهورية الخامسة؟
المعضلة التي يتعين على لوكورنو حل شفرتها، لا تقتصر على الاحتجاجات في الشارع، بل تكمن في مهمة أخرى مستعصية، تقوم على محاولة بناء توافق داخل الجمعية الوطنية (البرلمان) المنقسمة إلى ثلاث كتل متقاتلة: معسكر ماكرون الوسطي، اليمين القومي المتشدد بقيادة مارين لوبان، واليسار المتشدد بزعامة جان لوك ميلونشون. ولا تملك أي من هذه الكتل أغلبية مطلقة. رئيسا الوزراء السابقان فشلا في كسب ثقة البرلمان، ما يضع لوكورنو في موقع دقيق يتطلب ذهاء سياسيا وقدرة على الحوار مع كل أطياف المشهد السياسي. وفي هذا السياق، يبدو أن لوكورنو واعٍ تماما بالتحديات التي تنتظره. فقد قال في خطابه القصير الذي ألقاه بعد تعيينه "نحن نعيش أزمة سياسية وبرلمانية تتطلب التواضع والتحفّظ... لكننا سننجح. لا طريق مستحيل". غير أن مؤسسة البرلمان لم تعد لها القدرة على القيام بدورها التقليدي في إنشاء حكومات بأغلبيات تضمن الاستقرار السياسي". فهل يعني ذلك بداية نهاية الجمهورية الخامسة؟
ويذكر أن "الجمهورية الخامسة" هو الإطار الدستوري الحالي الذي تأسّس في فرنسا عام 1958 على يد الجنرال شارل ديغول، في لحظة حاسمة تميزت بأزمة الجزائر آنذاك وعدم استقرار حكومي. جاءت هذه الجمهورية لتضع حدًا لفوضى البرلمانية التي ميّزت الجمهورية الرابعة، ونقلت فرنسا إلى نظام شبه رئاسي قوي، يُعزّز من صلاحيات رئيس الجمهورية ويمنحه دورًا محوريًا في توجيه الدولة. ومع مرور الزمن، أصبحت الجمهورية الخامسة رمزًا للثبات في مشهد سياسي متقلب، حيث جمعت بين الديمقراطية التمثيلية والفعالية التنفيذية. لكن يبدو أن هذا العهد قد ولى وانتهي.
صحيفة "هوسبودارسكي نوفيني" الاقتصادية الليبرالية التشيكية (التاسع من سبتمبر) كتبت معلقة "في باريس تسود أزمة إرادة سياسية. يعتمد النظام السياسي الفرنسي منذ ما يقرب من سبعين عامًا على أن حزبًا واحدًا يحكم بالأغلبية. أما ثقافة السعي إلى التسويات وحلول الوسط، فهي مفقودة تمامًا. لكن توزيع القوى السياسية منذ الانتخابات البرلمانية في العام الماضي لم يمنح أي حزب الأغلبية (..) لذلك هناك خياران لا ثالث لهما: إما التعاون عبر المؤسسات الحزبية، أو الفوضى، وهي التي تسود حاليا (..) ومع ذلك، إذا لم تحدث معجزة، فلن يبق هناك خيار سوى انتهاج سياسة اقتصادية حكومية أكثر مسؤولية. صحيح أن الاقتصاد الفرنسي ينمو ببطء وأن الدولة تتوقع عجزًا كبيرًا، وقد يصمد هذا الوضع لبضع سنوات، لكنه ليس مستدامًا على المدى الطويل".
ديون وعدم اليقين في نفق محفوف بالمخاطر
الشارع يغلي، والمعارضة تتربص، والوقت يداهم حكومة لوكورنو مع اقتراب موعد إعداد ميزانية العام الجديد في بلد مثقل بالديون. ردود الفعل الأولية من اليسار واليمين الشعبوي كانت كلها انتقادات واتهامات بأن لوكورنو ليس إلا استمرارًا لنهج ماكرون، رغم تعهده بالتغيير. الأسابيع القادمة ستكون حاسمة. فقدارتفع عبء الديون في فرنسا لمستويات قياسية، فالإنفاق العام كان دائمًا الحل الأسهل للأغلبيات السياسية غير المتجانسة. وغالبًا ما تم الرد على التوترات مثل حركة "السترات الصفراء" وما شابهها من خلال تقديم إعانات جديدة. وتخضع فرنسا لضغوط لخفض عجزها المالي الذي يبلغ نحو ضعف الحد الأقصى الذي يحدده الاتحاد الأوروبي والبالغ ثلاثة بالمئة، إلى جانب الديون المتراكمة ووصولها لمستويات قياسية بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي.
صحيفة "هاندلسبلات" الاقتصادية الألمانية كتبت بهذا الصدد معلقة (الثامن من سبتمبر / أيلول) معلقة "في الواقع، يمكن لأي شخص يمتلك قدراً بسيطاً من الفهم الاقتصادي أن يدرك أن فرنسا لم تعد قادرة على تحمّل ديونها. ومع ذلك، استمر ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي في الانزلاق، على ما يبدو دون توقف، نحو فقدان السيطرة المالية (..) لم ينجح الرئيس ماكرون ورؤساء حكوماته المتعاقبون، بعد جائحة كورونا، في السيطرة على عجز الميزانية. والنتيجة كانت زيادة الدين العام إلى نسبة مقلقة بلغت 116% من الناتج المحلي الإجمالي. وبالأرقام المطلقة، راكمت فرنسا ديوناً تُقدّر بنحو 3300 مليار يورو، وهو أعلى مستوى للديون في منطقة اليورو".
تحرير: وفاق بنكيران