"فيسبوك العلماء": أضخم شبكة تواصُل تجمع باحثي العلوم
٢٠ أبريل ٢٠١١تزدهر شبكات التواصل الاجتماعي الإلكترونية على الإنترنت مثل فيسبوك وكسينغ وماي سبيس باستمرار. وفي ألمانيا يستخدم ما يقرب من نصف الألمان، أي حوالي 40 مليون ألماني، هذه المنابر الافتراضية على الإنترنت للتواصل مع أصدقائهم وعائلاتهم وزملائهم في العمل. ولكن توجد شبكة اجتماعية أخرى على الإنترنت لا يقتصر الأمر على تبادل المسجلين فيها للصور التي يلتقطونها أثناء أيام العطلة، بل إنها تعتبر أكبر منبر للتواصل العلمي على الإنترنت مخصصة للعلماء والباحثين، والتي سجل فيها إلى الآن أكثر من تسعمائة ألف باحث من جميع أنحاء العالم. اسم هذه الشبكة ريسيرتشغيت "Researchgate"، وفكرتها نشأت في ألمانيا.
الحاجة أم الاختراع
في مكتب كبير وواسع في الفناء الخلفي لإحدى بنايات العاصمة الألمانية برلين تختلط عبارات مكتوبة باللغتين الإنكليزية والإسبانية ناهيك عن الألمانية مع الضجيج الصادر عن أعمال البناء لدى الجيران. يجلس مبرمجو الكمبيوتر ومصممو البرامج من الشباب الذين لم يتجاوزوا الثلاثين من العمر على حواسبهم الناصعة البياض، مركزين على عملهم في تنظيم الشبكة الاجتماعية العلمية ريسيرتشغيت المتخصصة بربط عرى التواصل بين الباحثين من كل أنحاء العالم. ويجلس بين هؤلاء الشباب: إياد ماديش الحاصل على شهادة الدكتوراه في الطب البشري و الذي أسس الشبكة العلمية ريسيرتشغيت عام 2008 مع اثنين من أصدقائه.
وكان حافزه لتأسيس الشبكة هو افتقاده آنذاك أثناء إجرائه أبحاثه الطبية لخبراء يساعدونه في بحثه كما يقول: "حاولت وزملائي أثناء إجرائنا لبحوثنا الطبية مكاثرة خلايا بشرية جذعية معينة لنحصل في النهاية على شكل عظام إصبع اصطناعي. وكنا في حاجة إلى بعض المتخصصين في هذا المجال والذين كنا نفتقر إليهم في مختبرنا الطبي". ويستطرد ماديش قائلاً: "ومن ثم نشأت لدينا فكرة تأسيس منبر البحث الإلكتروني ريسيرتشغيت على الإنترنت، وعزَمنا على بناء شبكة تواصل يمكن للعلماء والباحثين من خلالها تقديم أنفسهم وتقديم مهاراتهم العلمية ومشاريعهم البحثية، وبالتالي يُمْكن للباحثين رصد مَن يرغبون بالتواصل معهم داخل الشبكة ".
شعار هذه الشبكة العلمية هو "الخروج من البرج الأكاديمي العاجي" في الجامعات ومراكز الأبحاث إلى جو تواصلي علمي أكثر عالمية وتفاعلية. فهي شبكة تـُمكــِّن علماء البيئة النرويجيين مثلاً من إثارة نقاش مع علماء الاجتماع المصريين، وتـُمكـِّـن الكيميائيين الأمريكيين مثلاً من طرح ما قد يتبادر إليهم من أسئلة على علماء الرياضيات الهنود واستقاء نصائح منهم في مجال بحوثهم. وهو تبادل علمي وتقني يتخطى الحدود الإقليمية والقــُـطرية للدول وتأتي أهميتها من حيث أن "أكثر من 80 إلى 90 في المائة من الأمور المطروحة بالبحث العلمي حين قيام أحد الباحثين به لا تكلل بالنجاح" كما يرى إياد ماديش
ويؤكد ماديش أن المشكلة الكبرى تكمن في أنه "لا يتمّ بالطبع نشر معلومات وبيانات البحث العلمي أثناء مرحلة القيام به، لأن ما يتم نشره عادةً هو ما يتم التوصل إليه بنجاح عقب انتهاء البحث العلمي"، فميزة شبكة ريسيرتشغيت هي أنها تسمح للباحثين أثناء قيامهم ببحوثهم بتبادل هذه المعلومات والبيانات الخام والتي قد تحتوي على أخطاء والاستفادة منها، وبذلك "يتجنب الباحثون أخطاء نظرائهم وزملائهم في كل أنحاء العالم، ما يُعجــِّل من سرعة إنجاز البحث العلمي والحصول على النتائج".
إقبال شديد
وتتوهج عينا إياد ماديش، وهو بالمناسبة سليل أبوين سوريين، من وراء نظارته عندما يبدأ بالحديث عن أربعة آلاف مُنــْضَـمّ جديد يومياً من الباحثين الذين يسجلون أنفسهم في شبكته العلمية. أما عن جهة التمويل فتتحصل عليه شبكته من دعم مالي تدفعه شركات منطقة سيليكون فالي في كاليفورنيا الأمريكية المتخصصة بالإنتاج التقني. وخلافاً لشبكة فيسبوك الاجتماعية فإنه لا يتم عرض أية إعلانات دعائية في شبكة ريسيرتشغيت العلمية، كما أنه لا يتم تسريب معلومات الباحثين أو كشفها لغير مَن هم في الشبكة، وأما من ناحية واردات الشبكة فإنا للشبكة ما يكفي من الوسائل لكسب المال من غير الإعلانات الدعائية كما يقول إياد ماديش مستطرداً: "فمثلاً لدينا قسم في الشبكة لعرض وظائف المجالات العلمية، تضع فيه الشركات إعلانات الوظائف العلمية الشاغرة فيها، وبالطبع تدفع الشركات رسوماً على ذلك"، بحيث تكون هذه الخدمة مجانية بالنسبة للباحث المسجل في الشبكة، ويتابع إياد ماديش قائلاً "كما أننا نقدم خدمات خاصة للمؤسسات البحثية، فمثلاً قمنا ببرمجة موقع خاص لمؤسسة ماكس بلانك الألمانية العلمية، والمؤسسة تدفع ثمنا ماليا مقابل ذلك".
أحد الباحثين المستخدمين لشبكة ريسيرتشغيت هو الدكتور تيم هوكو من برلين والذي أمضى أكثر من عامين مستفيداً منها في تنظيم أبحاثه التي يقود فيها عدة فِرَق عمل من الباحثين المُنـْـكــَـبّـين على دراسة الكيمياء الحيوية والمتخصصين بالتحديد في مجال تطوير الأدوية المُسكـّنة لآلام أعضاء الإنسان. ويقوم هذا الباحث البالغ من العمر أربعين عاماً مع وفِرَق عمله بتقديم النتائج والبيانات التجريبية التي يحصلون عليها في المختبرات على العلماء في كل أنحاء العالم عن طريق هذه الشبكة. ويؤكد تيم هوكو أن هذه الشبكة منبر مثالي لتنظيم ندوات علمية على مستوى العالم ووسيلة ممتازة للحصول على المواد التقنية اللازمة لأبحاثه. ويستطرد بالقول: "شبكة التواصل العلمية هذه مهمة جداً. عادة ما تتوفر المعلومات في الدوريات العلمية وهي صحف ومجلات أو مواقع إلكترونية غالية جداً في أحيان كثيرة. أما في شبكة ريسيرتشغيت فينشر كل باحث مواده مجاناً. وتستفيد من ذلك مراكز الأبحاث وخاصة الجامعات التي لا تمتلك الكثير من المال".
شبكة ريسيرتشغيت: "ليست بديلاً عن الدوريات العلمية"
لا شك أن هذه الشبكة مفيدة لعلماء وباحثي الدول النامية الذين لا يُمكنهم تحمـُّـل أعباء الرحلات إلى المؤتمرات العلمية العالمية ولا يستطيعون تحمـُّـل تكاليف المنشورات العلمية الدورية الغالية، حيث أنهم يتمكنون من خلال شبكة ريسيرتشغيت على الإنترنت من معرفة كل ما هو جديد في مجال العلوم والتقنية دون أي تكاليف باهظة. غير أن الباحث تيم هوكو لا يعتقد أن شبكة ريسيرتشغيت تمثل منافساً بديلاً عن المجلات الدورية التخصصية الرائدة في مجال العلوم والتقنية لأنها "ليست إلا مصدراً إضافياً للمعلومات. فالأشخاص الذين ينشرون فيها معلومات أبحاثهم لا يضعونها تحت حقوق نشر خاصة بهذه الشبكة".
ويُقبل بشكل أساسي على هذه الشبكة العلمية الباحثون الجدد والمبتدئون، أما قدامى الباحثين أو المخضرمون فإنهم يترددون في اتخاذها أداةً للتواصل العلمي، وقد يكون سبب ذلك هو أن أي شخص، مهما كان، يمكنه التسجيل ونشر معلوماته فيها على أنه باحث علمي. فشبكة ريسيرتشغيت لا تقوم بشكل فعّال بتفحص مدى جدية مستخدميها أو مصداقية بيانات المسجلين لديها، غير أن هذا أمر غير ضروري كما يعتقد العالم في آلام الجسم البشري تيم هوكو قائلاً: "في حال وجود معلومات مثيرة للاستغراب على الشبكة، نـَشَرها شخص ما، فعلى قارئيها أن يروا بدقة ما إذا كان هذا الشخص قد زوّدهم أيضا بتجاربه وآراءه الخاصة القائمة على مصادر علمية موثوقة والمستندة إلى أعمال علماء آخرين من كبار الزملاء المعروفين في البحث العلمي، ويُعَد هذا نوعاً من المراقبة الذاتية في هذا المنبر العلمي".
وتتضمن هذه المراقبة الذاتية أيضاً قيام الباحثين المسجلين بتقييم التعليقات التي يكتبها الأشخاص في الشبكة كما يؤكد مؤسسها الطبيب إياد ماديش، والذي لم ينتهِ من بحث الدكتوراه الذي قام به فحسب بل ويحلم أيضاً بالظفر بجائزة نوبل. لكن ليس بجائزة نوبل للبحوث المتميزة في الطب، بل بجائزة نوبل على تأسيسه لأضخم شبكة عملاقة على الإنترنت متخصصة في التواصل العلمي.
آيغول تشيزميتشيولو/ علي المخلافي
مراجعة: عماد م. غانم