كائنات تعيش داخل الجليد وتتحايل على التجَمُّد والملوحة
٤ أبريل ٢٠١٢ يبدو جليد البحار والمحيطات القُطبية ظاهرياً بأنه ليس مكاناً صالحاً للحياة. صحيح أن الدِّبَبَة القطبية وطيور البطريق تمشي على سطحه والأسماك والثدييات البحرية تسبح تحته، لكن الكثيرين منا يعتقد أن الجليد في حد ذاته ليس إلا كتلة من المياه المتجمدة الخالية من الحياة. غير أن المظاهر كثيرا ما تكون خدّاعة!
فالقنوات الصغيرة في الجليد تعجّ بالكائنات الحية: كالبكتيريا والفطريات والطحالب والديدان المُسطّحة التي تَشْعُر في الجليد براحة كبيرة. ولا يتجاوز قُطْرُ كل تجويف جليدي قُطرَ شعرة الرأس. ولكن على هذه الكائنات الحية مقاومة الجليد وشدة الملوحة كي تتمكن من البقاء على قيد الحياة.
كائناِت حية تقوم بإنتاج بروتينات مضادة للجليد
تشكِّل درجات الحرارة المنخفضة جداً، التي تبلغ 20 درجة مئوية تحت الصفر في القطب الشمالي والجنوبي للأرض مثلاً، خطراً على القنوات الدقيقة داخل الجليد التي تعيش فيها كائنات حية. فتمتلئ هذه التجاويف الصغيرة بالجليد بسبب البرودة العالية وتشكّل خطراً على سُكانها من الكائنات الحية. ويُشبِه ذلك إنساناً واقفاً في غرفة تضيق عليه جدرانها وتتحرّك الجُدران من كل الاتجاهات حتى تحصره تماماً في الغرفة إلى أن يموت! وهو أمر من الصعب تصوره. لكن الكائنات الدقيقة تستطيع مواجهة هذه الصعاب بل إنها تنجو من الخطر بفنٍّ واقتدار.
فالكثير من الكائنات الحية التي تعيش داخل الجليد تقوم بتصنيع بروتينات مضادة للتجمُّد وتقوم بطرح هذه البروتينات إلى الوسَط الجليدي. هذه البروتينات ترتبط ببلورات الثلج الناشئة وتمنعها من النمو، وتبقى بلورات الثلج صغيرة ودون أية خطورة. ومثال ذلك الطحلب الحويصليّ وحيد الخلية المسمى Fragilariopsis cylindrus الذي يقوم بإنتاج بروتينات مضادة لتجمُّد الماء. وقد لاحظ الباحثون أن هذا الطحلب يقوم بإنتاج كميات كبيرة من البروتينات المضادة للجليد وبشكل خاص عندما يكون المكان المحيط به مالحاً وبارداً جداً.
وهذا ما اكتشفه الباحثون في معهد ألفريد فيغنَر للأبحاث القطبية والبحرية في مدينة بريمرهافن شمال ألمانيا. كما أن هذه البروتينات لا تُغيِّر حجم بلورات الثلج فقط ولكن أيضاً البنية الداخلية للبلورات وبالتالي تتمكن من تغيير مسامات بلورات الجليد نفسه. بل إن بعض الكائنات الحية التي تعيش داخل الجليد تستخدم حيلة أخرى، فهي تقوم بتكوين مواد هلامية مكونة من سلاسل من الجزيئات حول جسدها على شكل درعٍ يقيها من الجليد والأملاح التي حولها، تماماً مثل سُتْرَة الإنسان الغطاس البلاستيكية الواقية التي تعزل جلده عن الماء.
كائنات حية تتحايل على الأوساط المِلْحِيَّة القاتلة
وتقول الباحثة مادالينا باير- غيرالدي بهذا الشأن: "الجليد يتغير بهذه الطريقة بشكل كبير ولا يسد مساكن الكائنات الحية العائشة فيه، ولكن المحلول المِلْحيّ يبقى في القنوات والتجاويف الصغيرة التي يسدّها الجليد"؛ إذ أن هذه التجاويف الصغيرة تكون ممتلئة بمياه البحار المالحة للغاية. فعندما يتجمد الماء لا تَكُون الأملاح جزءاً من الجليد نفسه ولكنها تنفصل وتتجمع بكميات كبيرة في هذه التجاويف.
وعلى الكائنات الخلوية الحية التي تعيش داخل الجليد حل هذه المشكلة الأخرى: وهي مشكلة المحتوى العالي جداً من الملح الموجود في بيئتها المحيطة. الأملاح ضارة جداً على الكائنات الحية بل وقاتلة لها، والسبب في ذلك هو أن التركيز الكبير للملح خارج خلية الكائن الحي بشكل أكثر من داخلها يجعل محتوى المياه داخل الخلية يتدفق إلى خارجها، بسبب فارق تركيز الملح داخل الخلية وخارجها. وهذا يعني: قلة الماء داخل الخلية الحية وبالتالي موتها.
ولذلك تقوم خلايا الكائنات الحية بالتحايُل على هذا القانون الطبيعي من أجل النجاة والبقاء على قيد الحياة من خلال إنتاجها لجزيئات ملحية وحمضية كثيرة تتراكم بداخلها، وخاصة من الحمض الأميني البرولين وغيره، فيزداد التركيز الحمضي- الملحيّ داخل الخلية. وبالتالي تحدث عملية توازن لتركيز الأملاح تتجنب من خلاله خلية الكائن الحي تسرُّب الماء من داخلها إلى خارجها وبالتالي تتحاشى الموت. وعند الحاجة، تقوم الخلية بالتقليل من التركيز الحمضي- المِلحيّ بداخلها وذلك بحسب التركيز الملحي خارجها.
فالبكتيريا والفطريات والطحالب والديدان المسطحة وغيرها من الكائنات التي تعيش داخل الجليد تَتَمَكَّن باستخدام العديد من الحِيَل من قهر الظروف البيئية القاسية كالتجمُّد والملوحة في هذه البيئة الثلجية التي قد تبدو لأول وهلة غير صالحة لسكن الكائنات الحية.
بريغيته أوستَرات/ علي المخلافي
مراجعة: أحمد حسو