لتحقيق الأمن المائي.. تونس تبحث عن حلول في الأرض والسماء
١٨ يوليو ٢٠٢٥
لمواجهة شح المياه في تونس بدأت السلطات في البحث عن حلول بديلة مبتكرة، من بينها تقنية الاستمطار الصناعي التي تم اختبارها هذا العام في تونس لأول مرة. فهل تمثل هذه التقنية أملا حقيقيا يمكن أن يخفف من حدة الأزمة؟ أم أنها مجرد حل ظرفي محدود النتائج؟ ثم ماهي الحلول الأخرى الممكنة لتحقيق الأمن المائي للبلاد؟
"سنموت جميعا.. وسينقرض الإنسان" بهذه التحذيرات المتكررة لا تخفي المزارعة الشابة ومستشارة الزراعة الإيكولوجية مها المولهي، خوفها من مصير مظلم للزراعة وسبل بقاء الإنسان على مدار الستة عقود القادمة.
تستند مهى التي تدير مشروعا زراعيا يعتمد على حلول إيكولوجية، في مخاوفها إلى دراسات حديثة تحذر من أن الافتقاد الى زراعة مستدامة وموارد مائية منتظمة، سيجعل جهود توفير الغذاء مستقبلا تحت المحك.
وباعتبارها بلدا مصنفا تحت خط الفقر المائي، فإن تونس قد تجد نفسها في قلب هذه المخاوف، بسبب تقلص قدرتها على تخزين مواردها المائية وارتفاع درجات الحرارة وتغير خارطة تساقط الأمطار.
تونس في قلب العطش: واقع مقلق
تصنف تونس منذ سنوات ضمن "دول الفقر المائي"، حيث تقل حصة الفرد السنوية من المياه عن 450 متر مكعب، بعيدا عن حد الأمان المائي المحدد بـ 500 متر مكعب، ومتوسط استهلاك الفرد عالميا المقدر بألف متر مكعب سنويا، وفق منظمة الأغذية والزراعة الأممية (الفاو).
ورغم الانفراجة التي شهدتها البلاد منذ بداية عام 2025 مقارنة بالسنوات السابقة، فإن الوضع المائي لتونس لا يزال عند المستوى الأدنى بنسبة امتلاء للسدود تفوق 36 بالمئة، وفق توصيف حسين الرحيلي، خبير الموارد المائية في حديثه لـDW عربية.
والسبب الرئيسي في ذلك ان تونس تواجه صعوبات في تخزين المياه وهي تعاني من حالة هدر للفائض الماضي المتأتي من تهاطل الأمطار، رغم احتوائهاعلى أكثر من 1200 وحدةٍ مائية موزعة بين السدود والبحيرات الجبلية ومحطات معالجة المياه وتحلية مياه البحر.
وتقف خلف هذا العجز ظاهرة طبيعية تتمثل في تغير خارطة التساقطات في البلاد عما كانت عليه في السابق، حيث أصبح التركز الأكبر للأمطار في الأماكن التي لا تتوفر على سدود.
ويفسر الرحيلي لـDW عربية نتيجة هذه الظاهرة، بأن المناطق التي تحتوي على السدود في الشمال والشمال الغربي للبلاد لم تتلق سوى 67 % من النسبة الإجمالية لكمية الأمطار رغم ان نسبة التساقطات تجاوزت 160 مليمتر هذا العام في مختلف محافظات البلاد.
وفي المقابل، تضيع كميات كبيرة من مياه الامطار في مناطق مثل صفاقس ثاني اكبر المدن التونسية، ومناطق في الساحل الشرقي والجنوب الشرقي لأنها لا تحتوي على سدود.
ولهذا السبب وغيره بدأت تونس في خوض تجربة علمية جديدة لأول مرة، في مسعى لتوفير موارد مائية اضافية تحسبا لانحباس وعودة متواترة لمواسم الجفاف.
الاستمطار: حل مستدام أو تقنية ظرفية
ضبابية المستقبل وعدم السيطرة على مخزون مائي مطمئن دفع بتونس إلى البحث عن حلول أخرى غير تقليدية، مثل تقنية الاستمطار الاصطناعي، استئناسا بتجارب دول أخرى مثل الصين وروسيا وتايلند والإمارات وأندونيسيا.
والاستمطار هو عملية علمية تهدف إلى تعزيز فرص هطول الأمطار من خلال حقن السحب بمواد كيميائية مثل "يوديد الفضة" أو "الثلج الجاف" لتسريع عملية تشكل قطرات المطر وهطولها.
وقامت تونس بتجربة تقنية الاستمطار الاصطناعي، لأول مرة في مايو/آيار 2025، في الشمال الغربي، بالتحديد فوق أكبر سد في البلاد، سد سيدي سالم الواقع بشمال غرب تونس.
وبالتعاون مع خبراء إندونيسيين، استهدفت التجربة سحبا ركامية مرت فوق المنطقة، عبر إطلاق مادة "يوديد الفضة" من طائرة صغيرة.
وفي هذا الصدد، يقول الخبير في مجال البيئة، حمدي حشاد، في حديثه لـ DW عربية: "نتائج التجربة لم تكن ضخمة لكنها مشجعة، حيث تم تسجيل كمية أمطار في ذلك الوقت تتراوح بين 4 و8 ملم". ويتوافق ذلك مع نسب النجاح الاعتيادية لهذه التجربة والتي تتراوح حتى الآن بين 5 و20%، وفق المنظمة العالمية للأرصاد الجوية.
وبالمقارنة، يشير حشاد إلى استخدام تقنية الاستمطار في إندونيسيا، تحديدا في العاصمة جاكرتا التي تعيش سنويا على وقع الفيضانات. أجرت الحكومة، بشكل استباقي في كانون الثاني/يناير 2024، أكثر من 35 مهمة استمطار فوق البحر قبل أن تصل السحب إلى الأرض. ونتيجة لذلك، تراجع منسوب الفيضانات بنسبة 40% مقارنة بـ2022، حسب الهيئة الوطنية لإدارة الكوارث الإندونيسية.
واستدرك الخبير بقوله: "أخذت التجربة منعرجا مختلفا في دولة الإمارات، حيث أدت التجربة في أبريل/نيسان 2024 إلى هطول 254 ملم من الأمطار في يوم واحد في دبي وهو ما يعد أكثر من المعدل السنوي، الأمر الذي تسبب في إغراق المدينة بالفيضانات".
ورغم نفي الإمارات لذلك، كشفت تقارير صادرة عن أرصاد جوية هندية بأن التجربة قد خرجت عن السيطرة في ذلك الوقت. ويقول المزارع التونسي سعيد بن ناصر الذي يدير مزرعة بجهة جندوبة شمال غرب تونس بنبرة ساخرة "ماذا لو قاموا بالاستمطار على مستوى ولاية جندوبة وتحولت العملية الى إعصار مثل إعصار دبي وفاضت السدود مجتمعة وعجزت بوابة السد الأخير عن صرف المياه المتدفقة نحو العاصمة وفاض السد وتكسر الحاجز".
لكن بالنسبة إلى خبير الموارد المائية، حسين الرحيلي فإنه يرى أن "تجربة الاستمطار الاصطناعي هي فقط تجربة نموذجية مخبرية ولا ترتقي إلى مستوى تجارب الاستمطار المعمول بها وهذه التقنية تتطلب إمكانات لوجيستية ومادية وعلمية كبيرة لا تقدر عليها البلاد".
كما يعتبر حشاد، بدوره، أن الاستمطار يظل حلا ترقيعيا ولا يمكن أن يكون حلا حقيقيا لأزمة شح المياه.
بالإضافة الى النتائج المحدودة، يحذر خبراء من تداعيات الاستخدام المكثف للمواد الكيميائية في عملية تلقيح السحب، على صحة الإنسان والحيوان والبيئة عموما، عبر انتقالها إلى التربة ومياه الشرب، علاوة على أن الاستمطار يتطلب سحبا محددة وهو غير فعال في مواسم الجفاف الشديد.
قد ترسم تقنية الاستمطار أملا في المستقبل لكن التجارب العلمية والواقعية الراهنة، تجعل من السابق لأوانه حسب وزير الزراعة عز الدين بن الشيخ، إطلاق تقييمات جازمة بنجاح التجربة، ويبقي هذا تونس على المدى المتوسط على الأقل، امام مخاطر كبيرة لندرة المياه.
انعكاسات استمرار الشح المائي
يشمل تأثير شح المياه في تونس معظم جوانب التنمية الاجتماعية والاقتصادية، حيث زاد الطلب على المياه في السنوات الأخيرة نتيجة للنمو العمراني وارتفاع عدد السكان وتنامي احتياجات الري.
ومن المتوقع أن تؤدي التغيرات المناخية القاسية إلى شح أكبر في المياه بحلول عام 2050، يصاحبه ارتفاع للطلب مقابل العرض بنسبة 28 %، وفق البنك الدولي.
وإذا لـم تتخـذ تونـس إجراءات عاجلـة للتعامل مع مخاطـر التغيـرات المناخيـة وبشـكل خـاص نقـص الميـاه، فـإن الاقتصـاد قـد ينكمـش بنسبة 3.4% من الناتج الداخلي الخام بحلول عام 2023، ما يعادل 1.67 مليار يورو سنويا، وفق تقديرات البنك الدولي.
نقص المياه سيؤثر بالخصوص على القطاع الزراعي، حيث من المتوقع أن تنخفض قيمته المضافة بنسبة 15% بحلول عام 2030 وإلى 29 % بحلول عام 2050.
حلول أكثر استدامة
يصف البنك الدولي الاستراتيجيات الحالية لمواجهة ندرة المياه، بما في ذلك الاستثمارات الضخمة في البنية التحتية، وكذلك زيادة تحلية المياه، بأنها "غير مستدامة لا ماليا ولا بيئيا". ولذلك يؤكد البنك، ضمن تقريره الصادر عام 2023، على ضرورة إجراء إصلاحات للمؤسسات القائمة، من أجل تحسين إدارة تخصيص المياه عبر القطاعات المتنافسة.
وهو الأمر ذاته الذي دعت إليه آية كودجي، مختصة في إدارة المياه المستعملة ومعالجتها، في حديثها لـDW عربية: "بعد قضاء ستة أشهر في العمل لصالح الديوان الوطني للصرف الصحي، تيقنت أن التغيير الحقيقي ينبغي أن يأتي من الشباب الواعي والمجتمع المدني والمشاريع البديلة ومن كل الذين يؤمنون بالعمل الشريف والمبدئي".
وتؤكد آية، بعد انتهاء تجربتها القصيرة مع الديوان، أن الإصلاح يطال "منظومة بأكملها حتى نتمكن من تغيير العقليات لمستقبل مستدام وحماية البيئة والبحر الأبيض المتوسط من "العفن" والحفاظ على التنوع البيولوجي وتحقيق العدالة الاجتماعية".
من جهة أخرى، يوضح حسين الرحيلي، خبير في المورد المائية، في حديثه لـDWعربية أن " التغير المناخي يفرض وضع خطط استباقية للبقاء في وضع الاستعداد دائما، لأننا قد نواجه سنة أخرى دون أمطار أو بكميات ضئيلة جدا مثل ما وقع خلال سنوات طويلة في تونس".
وهذا يتطلب، وفق تعبيره، إعداد "خارطة جديدة لتعبئة الموارد المائية أو ابتكار طرق أخرى لمواجهة هذا التغير في مناطق التساقطات"، وهذا وفق رأي الخبير هو التحدي الأكبر الذي يستوجب "إعادة النظر في السياسات المائية التقليدية برمتها والتي لا يمكنها مواكبة التغيرات المناخية الحالية".
ويقترح أنه على الدولة أن تفرض على الصناعيين تحمل كلفة إعادة تدوير المياه التي تفرزها المصانع وتغيير السياسة السياحية باعتباره قطاع يهدر المياه بدوره.
ويعتقد الرحيلي أنه "من الأجدى الاستثمار بشكل أكبر وبكلفة أقل في احتواء الموارد المائية على الأرض بدل البحث عن طرق أخرى في السماء". وهو ما دعا إليه الخبير البيئي حشاد أيضا، بقوله: "الحل الحقيقي يبدأ من الأرض عبر تحديث شبكة توزيع المياه وتحفيز الفلاحة المستدامة وتثمين كل قطرة في السدود والآبار".
ويفسر هذا إعلان وزارة الزراعة في تونس عن بناء سدود جديدة (أربعة سدود) في ولايات الكاف وبنزرت ومنوبة وسوسة، على أن يتم الشروع في تعبئتها العام الجاري.
تحرير: عادل الشروعات