مؤرخ اسكتلندي: قيادة أمريكا لحلفائها في مهب الريح!
٢٠ يونيو ٢٠٢٣قبل عامين نشر مجلس الاستخبارات الوطني الأمريكي تقريره "التوجهات العالمية حتى 2040" وتضمن 5 سيناريوهات للعالم بعد 17 عاما من الآن. وكان السيناريو المرغوب فيه هو " نهضة الديمقراطيات" وفيه تقود الولايات المتحدة عودة ما يعرف بالعالم الحر. لكن ربما يستحق الأمر استعراض السيناريوهات الأربعة الأخرى وهي سيناريوهات يجب تجنبها ومنها "عالم مضطرب" حيث تكون الصيندولة قائدة لكنها ليست مسيطرة عالميا، وكذلك سيناريو "التعايش التنافسي" وفيه تتنافس الولايات المتحدة والصين على القيادة في عالم منقسم.
أما سيناريو "الصوامع المنفصلة" فيقدم عالما تنهار فيه العولمة وتظهر كتل اقتصادية وأمنية لحماية الدول من المخاطر المتزايدة. وأخيرا السيناريو الخامس وهو "المأساة والتعبئة" وهو قصة تغيير ثوري من القاع إلى القمة، في أعقاب مخاطر بيئية عالمية مدمرة. ويقول المؤرخ الاسكتلندي نيال فيرغسون في تحليل نشرته وكالة بلومبرج للأنباء إنه بعد عامين من نشر تقرير مجلس الاستخبارات الوطني، يواجه العالم السيناريو الثالث حيث يتصاعد التنافس الأمريكي الصيني على الأسواق والموارد والنفوذ السياسي والشعبي. في الوقت نفسه فإن تزايد الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الدول الكبيرة يقلل مخاطر دخولها في صراعات مسلحة مباشرة، وأغلبها منخرط في عمليات لتعزيز النفوذ العالمي والتجسس الاقتصادي والهجمات السيبرانية التي تسمح لها بتحقيق أهدافها دون المخاطرة بدخول حروب مدمرة.
أوكرانيا والتنافس الأمريكي الصيني
يتمثل التحدي الأمني المركزي في كيفية منع التنافس الجيوسياسي بين الصين والولايات المتحدة من تدمير التعاون الاقتصادي الذي يعتمد عليه ازدهار البلدين والاقتصاد العالمي ككل. ويشعر الكثير من الأوروبيين بعدم الارتياح لوقوعهم بين قوتين عظميين في حرب باردة جديدة. وهم يعرفون أن الصين مسؤولة جزئيا عن هذا الموقف، لكنهم يرون أن الولايات المتحدة مسؤولة بنفس القدر. بالطبع جاء تحرك التحالف الأمريكي عبر الأطلسي ردّاً على الغزو الروسي لأوكرانيا في العام الماضي، أفضل من التوقعات.
ولكن يمكن القول إن المشكلة هي ما تسمى "قانون القوة- النسخة الجيوسياسية" وتعني أن توزيع مساهمات 38 دولة تدعم المجهود الحربي لأوكرانيا غير معتاد لكنه يخضع لقانون القوة، فهناك مساهم واحد كبير والكثير من المساهمين الصغار. بالطبع المساهم الأكبر هو الولايات المتحدة. وبحسب أحدث بيانات "مؤشر دعم أوكرانيا"، فإن المساعدات الأمريكية المالية والإنسانية والعسكرية لأوكرانيا، تعادل سبعة أمثال مساهمات الدولة التي تليها مباشرة في القائمة وهي بريطانيا، كما أنها تزيد بنسبة 15% عن إجمالي المساعدات التي قدمتها دول ومؤسسات الاتحاد الأوروبي مجتمعة. وتزيد بنسبة 45% عن إجمالي المساعدات التي قدمتها 39 دولة أخرى مجتمعة. بمعنى آخر، فالولايات المتحدة لا تقود فقط حلف شمال الأطلسي (ناتو) وإنما التحالف غير الرسمي الأوسع نطاقا للدول الداعمة لأوكرانيا.
موقع الناخب الأمريكي في المعادلة
هذا الموقف يعتبر مشكلة لآنه يجعل أي جهود تقودها الولايات المتحدة تعتمد بشدة على دعم الناخبين الأمريكيين. ومواقف هؤلاء الناخبين متقلبة، وبخاصة عندما يشعرون بأنه يتم استنزاف العم سام من جانب مجموعة من "الركاب لا يدفعون ثمن الرحلة". والآن وبعد 15 شهرا من الحرب في أوكرانيا مازال الرأي العام الأمريكي يؤيد دعم كييف. وبحسب استطلاع رأي أخير أجراه مركز هارفارد هاريس فإن 23% فقط من الأمريكيين يعتقدون أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تقوم بعمل "مفرط" لمواجهة روسيا في أوكرانيا. كما أن 15% من الأمريكيين يعتقدون أن إدارة بايدن تتعامل مع السياسة الصينية بقوة مفرطة.
لكن التاريخ يقول إن هذه النسب يمكن أن ترتفع بسرعة وبخاصة إذا تدهورت الأوضاع الاقتصادية للأمريكيين مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية. ويقول فيرغسون المحاضر في جامعة هارفارد، إن هذه الحقيقة تفرض السؤال عن القيادة الأمريكية الاقتصادية في العالم. فعندما يكون أداء الاقتصاد الأمريكي أفضل من أداء الحلفاء والخصوم، تستطيع واشنطن تحمل عبء القيادة كما يحدث في أوكرانيا. ومرة ثانية، فالأمور تبدو جيدة من الناحية الظاهرية، على سبيل المثال تعتقد مجلة إيكونوميست الاقتصادية البريطانية المرموقة أن الولايات المتحدة "تقفز إلى أعلى" في حين تقترب الصين من ذروة صعودها الاقتصادي.
الواقع أكثر تعقيدا
لكن مع نظرة أشد قربا، تصبح الصورة أقل وردية، وذلك لسبب واحد وهو أن أوضاع المالية العامة الأمريكية غير مستدامة، كما أوضحه الخلاف بين الكونغرس والإدارة الأمريكية بشأن سقف الدين العام مؤخرا. ومن المتوقع ارتفاع عجز الميزانية الأمريكية لأكثر من 5% من إجمالي الناتج المحلي خلال السنوات العشر المقبلة، ليصل إلى 7,3% عام 2033. ويتوقع محللون وخبراء أن تتجاوز نفقات خدمة الدين الأمريكي، مخصصات الإنفاق العسكري في عام 2029، في حين يتوقع فيرغسون الوصول إلى هذه المرحلة في وقت أقرب من ذلك، مشيرا إلى أن تاريخ الإمبراطوريات السابقة التي كانت تنفق على خدمة الدين أكثر مما تنفق على الأمن القومي لا يدعو للتفاؤل.
وما زال الأمريكيون يدفعون ثمنا مرتفعا للخطأ الفادح لمجلس الاحتياط الاتحادي (البنك المركزي) الأمريكي عندما تجاهل ارتفاع معدل التضخم خلال 2021 وأوائل .2022 والآن يتراجع معدل التضخم في الولايات المتحدة، لكنه مازال بعيدا للغاية عن المستوى المستهدف وهو 2%، وهو ما يضرب بمصداقية هذا المعدل المستهدف. ويسأل فيرجسون عما إذا كان لدى الولايات المتحدة استراتيجية للقيادة؟، مشيرا إلى الكلمة التي ألقاها مستشار الأمن القومي الأمريكي جاك سوليفان في معهد بروكينغز للدراسات في الشهر الماضي وقال فيها إن استراتيجية التصنيع الأمريكية الجديدة لا تمثل تهديدا لحلفاء الولايات المتحدة لآنها شجعتهم على أن يحذوا حذو الولايات المتحدة. كما ألمح إلى أن الأمر نفسه ينطبق على حصر التفوق التكنولوجي للولايات المتحدة على الصين "في نطاق ضيق محمي بسياج مرتفع".
تحديات احتواء الخطر الصيني
من الناحية الرسمية فإن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يتبنيان نفس النهج عندما يتعلق الأمر "بعدم المخاطرة" بالعلاقات الاقتصادية مع الصين. لكن في الجلسات المغلقة يتحدث الأوروبيون عن عدة هواجس تجاه الولايات المتحدة، وأولها قانون خفض التضخم الأمريكي الذي أصدرته إدارة الرئيس جو بايدن في العام الماضي ويعتبره الأوروبيون نسخة بايدن من استراتيجية "أمريكا أولا" للرئيس السابق دونالد ترامب. وثانيها إدراكهم أن حديث سوليفان عن السياج المرتفع لحماية التفوق التكنولوجي الأمريكي على الصين يعني أيضا إبقاء الأوروبيين خارج هذا السياج خاصة فيما يتعلق بسباق الذكاء الاصطناعي.
أما الهاجس الثالث فيتعلق بالتداعيات غير المقصودة للسياسة الأمريكية للاحتواء التكنولوجي للصين. أخيرا يرى نيال فيرغسون أن القيادة الأمريكية فكرة جيدة بالفعل، لكن رحلة واحدة إلى أوروبا ستبدد الإيمان بهذه الفكرة. بالطبع يمكن القول إن تآكل مصداقية الولايات المتحدة باعتبارها "مدينة مشرقة على التل" كما كان يردد الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريغان، هو أمر مفهوم تماما ونحن نجد أن رئيسا سابقا هو دونالد ترامب يسعى للفوز بفترة رئاسة جديدة لكي يتجنب دخول السجن بسبب جرائم تورط فيها. فإذا كانت الولايات المتحدة هي القائد بلا منازع لأطراف الأرض في مواجهة قلب الأرض التي تمثلها منطقة أوراسيا بحسب نظرية عالم الجغرفيا السياسية الأمريكي الشهير نيكولاس سبايكمان، فإن تماسك تحالف الأطراف الآن أصبح أضعف من أي وقت مضى وبدأت التشققات تظهر فيه بشكل مقلق.
ح.ز/ و.ب (د.ب.ا)