تأثير اعتراف ماكرون المزمع بدولة فلسطينية في الداخل الفرنسي؟
٥ أغسطس ٢٠٢٥
محمد عريقات فلسطيني يعش في فرنسا شهد بنفسه موقف فرنسا المتذبذب من الحرب بين إسرائيل وحماس؛ بدءًا من السخرية التي اضطر لتحملها بسبب ارتدائه الكوفية الفلسطينية، إلى الانتقادات على مشاركته في مظاهرات ضد الحرب في غزة.
وحول ذلك يقول متذكرًا الاحتجاجات الأولى، التي كان معظم المشاركين فيها في البداية مسلمين: "من الصعب ارتداء رمز يظهر أنَّك فلسطيني. لقد كان من الصعب جدًا ارتداء الكوفية ورفع العلم الفلسطيني".
"رمزي للغاية، ومهم للغاية"
ولكن يبدو الآن بالنسبة لطالب القانون الفلسطيني محمد عريقات، الذي يعيش في باريس منذ أربعة أعوام، أنَّ هناك تغييرًا. وذلك إثر أعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 24 تموز/ يوليو عن نيته الاعتراف بالدولة الفلسطينية في أيلول/ سبتمبر أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.
وتعليقًا على هذا القرار يقول عريقات، الذي يبلغ عمره 30 عامًا، إنَّه "رمزي للغاية، ولكنه مهم للغاية". وإنَّ هذه الخطوة بجانب إجراءات أخرى سوف "تبشّر بعهد جديد".
انقسام في الطوائف الدينية
ومن الواضح أنَّ رد فعل عريقات على إعلان ماكرون يعكس الانقسام السياسي حول القضية الفلسطينية في فرنسا. كما يُعمّق التوترات بين الجاليتين اليهودية والمسلمة، التي تعد الأكبر في أوروبا الغربية.
وفي هذا الصدد قال لـDW جيرارد أونغر، نائب رئيس المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا (CRIF)، إنَّ: "الحرب أنهت علاقات كثيرة، سواء بين القادة الدينيين أو بين الأهالي. لم يعد الطرفان يتحدثان مع بعضهما تقريبًا. وكل طرف يعرف أنَّه إن قام بذلك فسيُصوّر الطرف الآخر نفسه كضحية".
ويعتبر المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا - بالإضافة إلى سياسيين فرنسيين محافظين ويمينيين متطرفين - من منتقدي إعلان الرئيس ماكرون. وقد وصفت هذه الجماعة اليهودية في بيان لها الاعتراف بفلسطين بأنَّه "فشل أخلاقي وخطأ دبلوماسي وسياسي".
"قرار انتهازي"
وينتقد أونغر قرار ماكرون قائلًا إنَّ "ماكرون لا يلتزم بوعوده". ويشير إلى أنَّ الرئيس الفرنسي وضع في السابق شروطًا للاعتراف بالدولة الفلسطينية - من بينها إطلاق سراح الرهائن المحتجزين لدى حماس و"نزع سلاحها".
وحركة حماس المسلحة مصنّفة كتنظيم إرهابي في إسرائيل والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية ودول أخرى.
وكذلك أعربت شخصيات يهودية بارزة أخرى عن انتقادات حادة. فقد قال المحامي أرنو كلارسفيلد، ابن صائد النازيين الشهير سيرج كلارسفيلد، لقناة سي نيوز التلفزيونية الفرنسية المحافظة: "هذا قرار انتهازي. يُرسِّخ الانفصال عن الجالية اليهودية في فرنسا، ويؤدي إلى فتور في العلاقات مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، ويدعم حماس".
فرنسا تغيِّر سياستها
وفي المقابل رحّب كما كان متوقعًا الكثير من القادة المسلمين والأحزاب اليسارية في فرنسا بخطوة الرئيس المخطط لها. وقال عبد الله زكري، نائب رئيس المجلس الإسلامي الفرنسي، إنَّ "قرار ماكرون استُقبل بارتياح وفرح كبيرين. ونأمل أن يتم تنفيذه في أيلول/ سبتمبر من دون شروط مسبقة".
وتقريبًا لا أحد يجادل في أنَّ إعلان ماكرون الاعتراف بالدولة الفلسطينية يمثل تحولًا سياسيًا. وذلك لأنَّ الرئيس الفرنسي تعهّد لإسرائيل "بدعم غير مشروط" مباشرة بعد هجوم حماس الإرهابي على إسرائيل في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
وقد دعا حينها إلى تشكيل تحالف دولي لمحاربة حماس. وحتى عام 2024، وصف في حفل لتأبين الضحايا الفرنسيين هجوم حماس بأنَّه "أكبر هجوم معاد للسامية في هذا القرن".
السعودية تدعم حل الدولتين
ولكن نظرًا للكارثة الإنسانية في قطاع غزة واستمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية هناك، فقد أصبح ماكرون يتأثر أكثر. إذ إنَّ الحرب في قطاع غزة أودت حتى الآن بحسب وزارة الصحة التي تديرها حماس بحياة أكثر من 62 ألف شخص. وهناك دراسة جديدة أجرتها جامعة لندن تفترض حتى أنَّ العدد أكبر بكثير.
وبعد إعلانه عن نيته الاعتراف بفلسطين كدولة، عقد ماكرون مع المملكة العربية السعودية في 28 تموز/ يوليو مؤتمرًا أمميًا في الأمم المتحدة لدفع جهود حل الدولتين.
هذا وتشير الاستطلاعات إلى أنَّ غالبية الشعب الفرنسي تؤيد تحول ماكرون السياسي. ولكن معظم الفرنسيين يطالبون بإطلاق سراح الرهائن المتبقين وإعلان حماس استسلامها. وهذا ما استنتجه استطلاع أجراه المعهد الفرنسي للرأي العام في حزيران/يونيو، بدعم من المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا.
"نفاق تام"
وحول حل الدولتين أضاف أونغر من المجلس اليهودي أنَّ "غالبية اليهود الفرنسيين لا يعادون حل الدولتين إذا تحققت الشروط الصحيحة. ومعظمهم يعتبرون الوضع في غزة - مع سقوط عشرات الآلاف من القتلى - مروعًا".
وينتقد أيضًا بيير ستامبول، رئيس الاتحاد اليهودي الفرنسي من أجل السلام، إعلان ماكرون الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ولكن لأسباب مختلفة. يقول إنَّ "ما تفعله فرنسا هو نفاق تام". ويضيف أنَّ "هذا ليس مميّزًا على الإطلاق. فالعديد من الدول، بما فيها النرويج وإسبانيا وأيرلندا وسلوفينيا، تعترف بدولة فلسطين".
ومن جانبه عبّر الحاخام ميشيل سرفاتي، الذي يعمل منذ سنين من أجل بناء علاقات بين الأديان في فرنسا، عن رأيه بحذر حول إعلان ماكرون. وقال: "يجب علينا الانتظار لنرى كيف سيرد مواطنونا المسلمون. ما يهم الكثيرين هو ببساطة العيش بسلام".
"شرائح لحم خنزير في صندوق البريد"
والأحداث في الشرق الأوسط، مثل حرب غزة، غالبًا ما يسمع صداها في فرنسا، حيث ينحدر الكثير من اليهود، البالغ عددهم نحو نصف مليون، والكثير من المسلمين، البالغ عددهم نحو ستة ملايين، من أصول شمال أفريقية. ومنذ هجوم حماس الإرهابي على إسرائيل وبدء الحرب في قطاع غزة، يسجّل اليهود وكذلك المسلمين زيادة في العنف الجسدي واللفظي.
ويقول أونغر، من المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا، إنَّ الاعتداءات المعادية للسامية "تضاعفت ضعفين أو حتى ثلاثة أضعاف. وفي السابق كانت تهديدات لفظية، والآن تهديدات جسدية. وقد طالت الاعتداءات حاخامات أيضًا".
وكذلك يصف عبد الله زكري، من المجلس الإسلامي الفرنسي، زيادة مشابهة في العنف. ويقول: "أنا شخصيًا وصلتني شرائح لحم خنزير وتهديدات في صندوق بريدي". ويضيف أنَّ "الكثير من المسلمين لا يبلغون الشرطة عن مثل هذه الأفعال".
"السياسة شيء والناس شيء آخر"
يرفض الكثيرون إجراء مقابلات صحفية في الدائرة التاسعة عشرة بباريس، والتي تعيش فيها بعض أكبر جاليات المسلمين واليهود في المدينة. والتقينا مجموعة من اليهود الأرثوذكس، كانوا يتحدثون أمام مكتبة لبيع الكتب الدينية واعترفوا فقط بأنَّ العلاقات معقدة.
وقال أحدهم: "نحن لا نبحث عن المشاكل. بل نحاول الحفاظ على علاقات جيدة مع العرب". وعلى بُعد عدة مباني، قال رجل الأعمال الجزائري كريم كاتا إن الجاليتين "تحاولان تجنُّب السياسة".
وأضاف، مشيرًا إلى محلات يهودية قريبة، من بينها محل لحوم وفق الشريعة اليهودية (كوشير) يوظف عمالًا مسلمين: "نعرف بعضنا منذ زمن طويل. ونحترم بعضنا. السياسة شيء. والناس شيء آخر".
"بدأوا يشعرون بالتعاطف"
ويصف طالب القانون محمد عريقات كيف تغيّر المزاج. ويقول إنَّ المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، التي تم حظرها في البداية، كان معظم المشاركين فيها في البداية مسلمين. ولكن بعد فترة قصيرة "انضم إليها كثير من الفرنسيين، وحتى من الجالية اليهودية، من اليهود ذوي التوجهات اليسارية"، كما يقول عريقات: "ورأيت أنَّهم بدأوا يشعرون بالتعاطف مع ما يحدث".
"أتذكّر كل شيء"
ومحمد عريقات وُلد في الضفة الغربية المحتلة، وما يزال يتذكر جيدًا اليوم الذي قتل فيه جنود الاحتلال الإسرائيلي عمه بالرصاص بينما كان جالسًا يدرس على سطح منزل عائلته. وفي ذلك اليوم كان محمد عريقات في الرابعة من عمره.
وحول ذلك يقول: "أتذكّر كل شيء - وحتى رائحة الطعام الذي كانت جدتي تطبخه. وأتذكّر أجزاءً من دماغ عمي على درج منزلنا". ويأمل أن يؤدي الضغط الدولي المتزايد على إسرائيل إلى جعل حليفها الأكبر، الولايات المتحدة الأمريكية، تحذو حذو ماكرون.
ويقول عريقات، الذي يريد البقاء في فرنسا ومواصلة دراسته: "أنا أكرّس حياتي لفلسطين والفلسطينيين". وهو مقتنع بأنَّه "عندما يناضل من أجل فلسطين فهو يناضل أيضًا من أجل مصالح إسرائيل".
الكاتبة: إليزابيث براينت
أعده للعربية: رائد الباش