1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

ما وراء دخان الفاتيكان الأبيض والأسود

في بلاد الفاتيكان يجتمع الكرادلة وينتخبون أحدهم ليجلس على الكرسي الرسولي مدى الحياة، وفي بلاد أوروبا المجاورة ينتخب المواطنون بأنفسهم من سيحكمهم لمدة محددة. الفاصل الجغرافي الصغير يخفي فاصلاً سياسياً ثقافياً كبيراً.

عرض لحماة الكنيسة، في العصور الوسطى امام مسرح كولسيو في رماصورة من: AP

تكشفت الأيام الأخيرة عن اهتمام إعلامي غير مسبوق بموت بابا الفاتيكان يوحنا بولس الثاني، واحتلت الجنازة صدارة الأحداث العالمية مزيحةً غيرها من الكوارث والحروب إلى الظل. وبقيت المشاهد المهيبة للجنازة وملابس الكرادلة الفخمة حية في أذهان المشاهدين من كل مكان، مما جعل الجنازة حدثاً يضارع مناسبات إعلامية ضخمة مثل زواج الأمير تشارلز والليدي ديانا، أو ضربات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول. وفي هذه الأيام يتجدد الاهتمام مرةً أخرى حيث ينعقد مجمع الكرادلة لاختيار البابا الجديد. غير أن الاهتمام الإعلامي يظل محدوداً بوصف الطقوس الغرائبية كالدخان الأبيض والدخان الأسود وشكل ورقة الانتخابات وعدد المنتخبين...الخ، متناسياً أن طريقة الانتخاب هذه وإن كانت مثيرة وغريبة فهي طريقة مريبة وغير عادلة لانتخاب حاكم يحكم حتى يموت. والمسافة التي تفصل مجمع الكرادلة أو نظام الفاتيكان عموماً عن الأنظمة الدكتاتورية التقليدية هي مسافة صغيرة. فكلاهما يرتكز على فكرة عقائدية أو أيديولوجية لتبرير حكم شخص أو أسرة بعينها مدى الحياة، وكلاهما يرفض فكرة تبادل السلطة أو المشاركة فيها عن طريق التمثيل النيابي.

سلطة مطلقة للكرادلةصورة من: AP

غير أن الخطير في نظام دولة الفاتيكان هو الدمج الكلي للدين والدولة في جسم واحد، وهي حالة فريدة في المجتمع الدولي. فحتى الدول التي تعتمد الدين أساساً لهويتها كإيران أو إسرائيل تتمتع بنظام نيابي فعال، يقوم بدور يصغر أو يكبر لكنه لا يتلاشى في اتخاذ القرارات. وفكرة الدمج الكلي للدين والدولة طالما راقت للجماعات الدينية المتطرفة من كافة الأديان، لإيمانهم بأن الدين يصلح لتنظيم الشؤون الروحية والشؤون الدنيوية على حد سواء. وهي في الحقيقة فكرة ليست بالجديدة بل أنها قادمة من العصور الوسطى، حيث هيمن هذا الشكل من الحكم على أنحاء واسعة من الأرض. فما على المرء وهو يفكر في معنى منصب بابا الفاتيكان كسلطة روحية وسلطة سياسية سوى أن يتذكر الخلافة العثمانية التي قامت على أساس مشابه. واليوم يظهر مدى التباين الشديد بين نظام القرون الوسطى والنظام الأوروبي الحديث القائم على الديموقراطية والنظام النيابي. غير أن هذا التحول لم يحدث في يوم وليلة ولكن حدث كتراكم طويل انتهى إلى ترسيخ فكرة الفصل بين السلطتين الدينية والدنيوية.

الإفلاس

حماة الكنيسة في العصور الوسطىصورة من: AP

أطبقت على أوروبا عصور من الظلام الحالك أثناء الحكم المطلق للكنيسة وعلى رأسها البابا، وقد انحدرت أحوال الرعايا حتى وصلت إلى أسوأ مراحلها في القرون الوسطي، وهي القرون التي انتشرت فيها محاكم التفتيش، وارتكبت فيها بشاعات لا مثيل لها، فأحرقت النساء أحياءً بدعوى أنهن ساحرات، ومات المرضى النفسيون ضرباً لتحريرهم من الأرواح الشريرة التي سكنتهم، وأقبل الأغنياء على شراء صكوك الغفران التي عرضتها الكنيسة بأثمان عالية ليضمنوا أن تغفر ذنوبهم ويدخلوا الجنة. وحرّمت الكنيسة قراءة أي كتب تتعارض مع تعاليمها، كما حاربت أية آراء تتعارض مع ما ورد في الكتب المقدسة، وخير مثال على ذلك هو قصة العالم جاليليو الذي اكتشف من استطلاعاته الفلكية أن النظام الشمسي يدور حول الشمس وليس حول الأرض كما كان يُظن سابقاً، فرفضت الكنيسة هذا الرأي وحاربته متهمةً إياه بالإلحاد، حتى أُجبر على التراجع عن رأيه.

كنيسة القيامة في القدس مسرح للصراع في العصور الوسطىصورة من: AP

واستشرى الفساد في جسم الكنيسة بعد ارتباطها بالمصالح الدنيوية، فأصبحت تعبر عن مصالح الطبقات المرتبطة بالكنيسة مثل النبلاء والإقطاعيين بدلاً من أن تهتم بالشؤون الروحية لرعايا الكنيسة. وتحولت البابوية على مر القرون إلى قوة نافذة وفقدت تدريجيا مظهرها الروحي لتتحول إلى سلطة جغرافية ودنيوية، وغير بعيد عن الأذهان الحملات الصليبية التي جيشتها الكنيسة بدعوى تحرير الأراضي المسيحية المقدسة في القدس من "الكفار"(1096-1291). وعكس الفساد الذي أصاب عملية انتخاب البابا مدى الانحدار الذي وصلت إليه الكنيسة. البابا ألكسندر الحادي عشر اشترى الباباوية عام 1492 بأن جعل السماء تمطر مالاً خلال المجمع الذي اختاره حبراً أعظم، ثم سرعان ما عين أبناءه في أرقى المناصب الإيطالية آنذاك. وطلب البابا اوربانوس الثالث عشر (1623-1644) من عملاء الفلك أن يضعوا الطالع الفلكي لكل كرادلة روما ليعرف متى سيتوفى هؤلاء لأنه لم يكن يثق بهم. وغيرها من القصص الكثيرة التي تدل على بشاعة الإنفراد بالسلطة.

الإصلاح

المصلح مارتن لوثر مؤسس الحركة البرتستانتيةصورة من: DW

من الصعب أن يحيط المرء في هذه العجالة بتاريخ الإصلاح الديني في أوروبا غير أن نظرة سريعة ستساعدنا على رؤية أن النظام الديموقراطي انبثق من رحم الحركات الإصلاحية الدينية. فبدأت حركة الإصلاح بالقس الألماني مارتن لوثر (1483 - 1546) وكانت حركته احتجاجا صارخا على الممارسات غير المشروعة التي يقوم بها رجال الدين ورغبتهم بالتحكم في عقل الفرد وفي تسيير الأمور الدنيوية والدينية. ودعا إلى إصلاح جميع جوانب الحياة في المجتمع بشكل عام، وطالب بحرية العقل في البحث، وإصلاح المجتمع عن طريق إصلاح الفرد. وما لبثت تعاليمه أن عمت ألمانيا ثم انتشرت في شمال أوروبا وأدت إلى انقسام أوروبا إلى (العالم البروتستانتي) أي الاحتجاجي الذي يعارض سلطة البابا، و (العالم الكاثوليكي) المؤيد لسلطة البابا. وازدادت الهوة التي تفصل بين العالمين حتى اشتعلت حرب الثلاثين عاماً، وهي الحرب التي امتدت في الفترة مابين 1618 إلى 1648 وأخذت طابعاً دينياً صرفاً وإن لم يخلُ من تدخل بعض نخب السلطة مثل الإقطاعيين والنبلاء للدفاع عن مصالحهم. أنهكت الحرب القارة الأوروبية وأبادت أجيال بأكملها، حتى تفشت الأوبئة واقتربت القارة من الإشراف على المجاعة، فانتهت الفرق المتصارعة إلى نتيجة مؤداها أنه لا يوجد منتصر في مثل هذه الحروب الدينية.

جاءت معاهدة "صلح فيسفاليا" لتضع حداً لحرب الثلاثين عاماً وانتهت إلى ضرورة فصل الدين عن الدولة، فالسلطة الروحية تفسد عندما تختلط بالسلطة السياسية، والحاكم يتجبر عندما يلقى دعم الدين. وتبلورت فكرة مؤداها أن سيطرة الكنيسة على شؤون الحياة لا يعني بالضرورة الخير والصلاح بل ربما أدت إلى نتائج عكسية. غير أن الزخم الحقيقي للحركة الإصلاحية جاء مع الثورة الفرنسية (1789 - 1799) التي وضعت حداً فاصلاً بين سلطة الحكومة وسلطة الدولة، فبعد أن ساءت أحوال الشعب من الضرائب الباهظة المفروضة عليهم ثاروا في وجه الفئة الحاكمة ونجحوا في إسقاط الملكية المتحالفة مع الكنيسة، وأعلنوا الجمهورية وكتبوا الدستور الجديد الذي اتخذ من الحرية والمساواة والإخاء مبادئ يرتكز عليها، وتأسست حقوق المواطنة القائمة على الحياة المشتركة لا على الانتماء العقائدي. وسرعان ما انتشرت أفكار الثورة الفرنسية في أرجاء القارة حتى عمتها، وأصبح فصل الدين عن الدولة هو الفكرة الأساسية التي تقوم عليها الديموقراطية الأوروبية والحياة النيابية.

لقاء للبابا يوحنا بولس الثاني أثناء زيارته للبنان سنة 1997صورة من: AP

لذلك يجدر وضع أهمية منصب بابا الفاتيكان في سياقها، فهذا المنصب يكتسب أهميته من السعي لتحقيق حوار بين الثقافات والأديان المختلفة، أو توجيه انتقادات لبعض نواحي الحياة المعاصرة، إضافةً إلى إضاءة الحياة الروحية لأتباع الكنيسة بالطبع، غير أنه يصبح محدود الأهمية في سياق الممارسة السياسية، فالنظام الباباوي لا يقوم على مبادئ الحرية والمشاركة في الحكم، وبهذا الخصوص لا يختلف كثيراً عن الأنظمة الملكية التي اندثرت في أوروبا ولم يعد لها سوى وجود رمزي، مثل نظام التاج الملكي في انجلترا أو أسبانيا أو هولندا أو الدنمارك أو غيرها من الدول الأوروبية، حيث يحتفظ الملك أو الملكة بمجرد منصب شرفي، كرمز مهيب لنظام بائد.

هيثم الورداني

تخطي إلى الجزء التالي اكتشاف المزيد

اكتشاف المزيد

تخطي إلى الجزء التالي موضوع DW الرئيسي

موضوع DW الرئيسي

تخطي إلى الجزء التالي المزيد من الموضوعات من DW