1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

مبروكة مع "جرذان" طرابلس في أقبية المخابرات

١٥ سبتمبر ٢٠١١

تواصل موفدة دويتشه فيله رحلتها في ليبيا، وفي طرابلس، أياما قليلة بعد تحريرها من قبل الثوار، كانت الرحلة مليئة بالإثارة. وفيها تعيد مبروكة خذير اكتشاف ليبيا بعد الثورة ومقارنتها بزيارات سابقة قامت بها في زمن حكم القذافي.

مراسلة دويتشه فيله، مبروكة خذير في رحلتها إلى العاصمة الليبية بعد تحريرها من قبل الثوارصورة من: DW

واصلنا كفريق لدويتشه فيله، رحلتنا الاستكشافية المحفوفة بالمخاطر من راس جدير الحدودي مع تونس إلى العاصمة الليبية طرابلس. شاهدنا في الطريق محلات مغلقة بالكامل وبنايات مهدومة وأبواب كتب عليه شعارات عديدة: "ليبيا حرة"و"القذافي يا جبان"و "معلشي شفشوفة"و"نحن رجال لا نستسلم نحيا أو نموت"...

كان الحزن باديا على وجوه الليبيين وينتابهم الخوف من تجدد الصراع. دخلنا العاصمة طرابلس التي خرجت لتوها من معركة حامية الوطيس. طوال الطريق نقاط تفتيش، شباب في سن الخامسة عشرة والعشرين يحملون السلاح فوق ظهورهم و يركبون سيارات مجهزة بأسلحة ثقيلة يحرسون بلداتهم التي دفعوا من اجلها دمهم. بدا التعب على كل شاب من الثوار فهم لم يناموا ولم يهدأ لهم بال منذ ثمانية أشهر. خرجوا إلى جبهات القتال وعرَّضوا صدورهم لرصاص كتائب القذافي ومرتزقته، وعاشوا دمارا نفسيا طرد من أعينهم النوم حتى تحررت العاصمة. فقد سقط نظام الدكتاتور ولكن الخطر مازال قائما لان أزلام القذافي قد يفعلون أي شيء لهزيمة الثورة وإحباط فرحة الليبيين.

دخلت العاصمة طرابلس برا هذه المرة، زال عني ذاك الاختناق الذي كنت أعيشه في السنوات الفارطة حين آتي إلى هذا البلد الذي لم يكن يثيرني أبدا. كلما تقدمت في العاصمة تصرعني رائحة الموت في كل مكان وتستثيرني تلك السيارات والدبابات المدمرة في الشوارع. خرجت طرابلس من معركتها منذ يومين فقط لذلك كانت رائحة الموت تتسلل إلى أنوفنا كلما اقتربنا من ساحة الشهداء، الساحة الخضراء سابقا.

هذه إذا العاصمة الليبية طرابلس مدمرة لكن دمارها "جميل" لأنه يشهد عن ثورة مجيدة تستحق وقوفنا إجلالا واحتراما و فخرا. هذه طرابلس التي سقطت كآخر معقل من معاقل الدكتاتور.انها طرابلس التي بقيت الصحافة تحلم بالدخول إليها منذ أربعين سنة من نظام يقمع الصحافيين ويروج الأوهام ويصارع من اجل البقاء اعتمادا على الانغلاق.

في الطريق إلى الفندق شوارع محفوفة بالدمار وبقايا ملابس وأغراض القتلى وروائح الموت تنبعث من تحت ركام المنشآت والبيوت. كنا نتنقل في المكان بسارة تونسية فلم يكن يعترض طريقنا أي ليبي إلا اذا كان يريد أن يعرض المساعدة. فقد اكتشف الليبيون خلال ثورتهم أن الشعب التونسي هو من عاضدهم واستقبل لاجئيهم في تونس وفتح بيوته لاحتضان من هربوا من ويلات الحرب. يقول الليبيون إن دماءهم اختلطت بدماء التونسيين وأن الفضل في ثورتهم يعود لتونس التي بدأت ربيع التغيير في العالم العربي.

رحلة الجوع ...و انقطاع المياه

أزمة المياه تلقي بظلالها على طرابلس أياما قليلة بعد تحريرها من قبل الثوارصورة من: picture alliance/dpa

كان يبدو واضحا جدا وأنت تمربكل نقاط التفتيش في العاصمة طرابلس أن هؤلاء الشباب الثوار الصغار الذين لا يتجاوز جلهم سن الخامسة والعشرين، قد تلقوا دعما عسكريا كبيرا ومنحوا عتادا حربيا ساعدهم على تحمل قمع نظام القذافي الذي لم يكن ينقصه من الإمكانيات ما يجعله قادرا على سحق هؤلاء الثوار لو لم يكونوا مسلحين. كانت كل الصور في العاصمة طرابلس تستحق أن تلتقط والوقوف عندها من أجل التأمل.

ها قد رجعت لباب العزيزية الذي كنت أمر سابقا أمامه ولا أجرؤ على النظر إليه لما فيه من حراسة مشددة. وها أنا ازور كل ركن من ساحة الشهداء لأشهد احتفالات الليبيين بالتخلص من الطاغية بعد أن كانت هذه الساحة طوال عقود أربعة ساحة للدعاية السياسية الكاذبة. يخرج الليبيون كل مساء بسياراتهم و أعلامهم ، رجالا ونساء، شيوخا وكهولا وأطفالا، يحملون الأعلام و يجوبون شوارع العاصمة وسط اطلاق الرصاص، الذي تعودوا على أزيزه فلم يعد يخيفهم، بل أصبحوا يعبرون من خلال اطلاقه في الهواء عن فرحة عارمة.

تعيش العاصمة طرابلس ظروفا إنسانية ومعيشية صعبة فقد شيعت العائلات آلاف الشباب الثوار الشهداء. المياه مقطوعة عنها والخطر مازال يحيط بها من كل صوب والقبض على أزلام النظام مازال على قدم و ساق.على طول الشوارع طوابير السيارات تنتظر ملء خزاناتها بالبنزين. قد يمضي هؤلاء 10 أيام في انتظار دورهم في طابور محطات البنزين وهم لم يذوقوا طعم الراحة منذ ثمانية اشهر خلت و لم يستحموا إلا نادرا لانقطاع المياه لكن جلهم يشعر براحة كبيرة لخصها احد سكان أحياء العاصمة في طرابلس ليقول :"و الله أنا مستعد لأمضي عمري في انتظار طابور البنزين و الله أنا مستعد أن أكمل حياتي دون أن أذوق طعم الخبز الذي لم أتذوقه منذ اشهر، والله أنا مستعد أن اشرب مياه مالحة...أنا مستعد لكل هذا ولن أحس به ما دمنا قد تخلصنا من الدكتاتور الطاغية".

لوحة رسمها أحد المعتقلين السابقين في سجن ابو سليم بالعاصمة طرابلسصورة من: dapd

لم يكن حال الصحافيين أحسن من حال الليبيين، فنحن أيضا لم نجد في الفندق أكلا أو شرابا. الفندق تحت سلطة الثوار والمياه فيه مقطوعة والأكل قليل ونادر. يجب أن تتعود على الجوع و ان تنسى انك تحتاج أن تأكل لتعيش وتعمل. أمضيت ليالي أتضور في انتظار قليل من المعكرونة يطبخه احد المتطوعين للطبخ للصحافيين في فندق ودان وسط العاصمة طرابلس. أما الخبز فلا تحلم انك تتحصل عليه يجب أن تأكل أي شيء يسد رمق جوعك ثم تأخذ الكاميرا وتنزل للشارع لترصد مآسي الليبيين التي ليست إلا امتدادا لمأساتك في زمن الحرب.

كنت وزميلي، خالد الكواطيط، نمضي يومنا في التصوير داخل شوارع العاصمة طرابلس. درجات الحرارة عالية للغاية والعرق يتصبب وأنت لاتملك إلا أن تمسح جبينك وتشتري قارورة من الماء لتمرر بها على جسدك بحذر كبير أن تنتهي كمية الماء لديك فلا تجد ما تشربه حتى يستمر نبض الحياة فيك.

كنا ننتظر ساعات طويلة في باحة الفندق حتى ساعات متأخرة من الليل ليقدم لنا الثوار الليبيون بعضا من المعكرونة أو الأرز أوالكسكسي فنأكله شاكرين ويتملكنا الشعور أن هذه المأكولات هي ألذ و اطعم ما أكلناه طوال حياتنا ففي زمن الحرب وانقطاع المؤونة يتغيرطعم الأشياء وتصبح الأكلة النادرة الفقيرة، فاخرة ونصبح محظوظين بحصولنا عليها.

القذافي ومصير الجرذان

في طرابلس تعيش كل لحظة تجربة جديدة وقصة مختلفة فالجميع يحدثك هنا عما كنا نجهله لأشهر طويلة من هذه الثورة الشرسة. لم يترك القذافي أسلوبا قمعيا إلا واستعمله لقمع الليبيين والكذب عليهم. جند القذافي ونظامه القمعي كل التلفزات الليبية لغسيل أدمغة الليبيين وايهامهم ان من يسميهم جرذانا يريدون شرا بليبيا. يحدثك الليبيون كيف كانوا يتسترون وراء أبوابهم ويخفضون من صوت التلفاز ليشاهدوا قناة الجزيرة أو العربية أو أي قناة أخرى تنقل لهم حقيقة ما يحصل في ليبيا. ويحدثك الليبيون كيف اعتكفوا في بيوتهم حسرة وألما وخوفا لان كل واحد منهم متهم بالخيانة إن هو لم يمجد نظام الدكتاتور القذافي.

لم تكن كل هذه المعطيات غريبة عني ولم استغرب ما يقال وصدقته حرفا حرفا، و كنت اعلم انه يوجد حكايات اغرب من كل هذا. فانا قد خرجت بدوري من ثورة مماثلة وعشت كل هذه اللحظات وانتشيت بحلاوة الانتصار وسكرت بحريتي كإعلامية انتقل حيثما أشاء لأنقل حقيقة الأشياء بعيدا عن خزعبلات(ترهات) السياسيين المستبدين الذي كذبوا علينا سنوات طويلة وعقودا متعاقبة ثم خرجوا من بلداننا إلى مزبلة التاريخ، إما هربا عن طريق الجو مثل ما فعل الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي أو تخفيا مثل الجرذان تحت الأرض كما يفعل القذافي الآن في ليبيا.

تتزاحم القصص الكثيرة التي تراكمت في الأشهر الأخيرة خلال الحرب في ليبيا. فهذه المدونة الليبية غيداء التواتي ترافقنا إلى سجنها الذي أمضت فيه ثلاثة اشهر في عهد القذافي وإلى مكتب التحقيق الذي سيقت إليه أثناء أيام الثورة لتحتجز هناك لأنها ببساطة فهمت أن عهد الدكتاتورية قد ولَّى.

مع غيداء في مقر المخابرات

غيداء التواتي المدونة الليبية التي التقت القذافي قبل سقوطهصورة من: DW

تتجول غيداء حرة طليقة داخل مبنى مكتب الاستخبارات الليبية حيث عذب وأهين وقتل مئات المعارضين. مكاتب مكسرة و ارشيف استخباراتي ملقى في الأرضيات واوراق وصور تشهد عن زوال إمبراطورية من الكذب والظلم والتعذيب .تبحث غيداء فتجد في كل تقرير اسم مواطن ليبي، وأوراقا تتضمن سجلات تنصت حتى على المكالمات الهاتفية للمؤيدين للنظام، ناهيك عن معارضيه.

تتذكر غيداء التواتي المدونة الليبية كل لحظة من لحظات عذابها داخل مكاتب التحقيق ثم تصيح بأعلى صوتها وسط مكاتب فارغة إلا من دمارها: "أين انتم يا أزلام القذافي ،أين أنت يا وزير الداخلية الظالم ويا من وصفتمونا بالجرذان. ها قد اثبت التاريخ أننا رجال وأنكم جرذان.أين انتم حتى تروا أنني ارفع منكم شأنا و قيمة وانكم جبناء تخافون من ظلكم و أنا حرة طليقة افخر بصمودي ...."

تواصل غيداء صيحاتها الهستيرية وسط مكاتب الاستخبارات الليبية. يترك لها الثوار الذين يسيطرون على المبنى حرية التجول والبحث في الأرشيف إكراما لمعاناتها واحتراما لمشاعرها الفياضة فهي تقول إنها كانت على علم أن عزيمتها ستنتصر يوما وأن على الباغي تدور الدوائر.تشكر غيداء الثوار الذين حرروا صوتها وكلمتها وأعادوا لها معنى شرف العيش بحرية وكرامة ثم تمضي لتصف كل أشكال التضييق عليها.

تخلى عن حبيبته بسبب تأييدها للقذافي

التقينا أحمد ، وهو شاب لم يتجاوزعمر 19 عاما لكنه عاش في أدق تفاصيل حياته ظلم القذافي وجبروته. احمد شاب ليبي يافع كان يمر معنا عن طريق حي من أحياء طرابلس ليقول بكل حرقة وأسف: "لقد دمرالقذافي حتى مشاعرنا وفرق بيننا. لقد كنت على علاقة حب كبيرة مع فتاة في هذا الحي و كانت تحب القذافي فتركتها..."

هذه قصة احمد الشاب الصغير بسيطة في معانيها بعيدة في فحواها. فقد فرق القذافي بين الأخ وأخاه والحبيب وحبيبه. لم يحتمل احمد أن تعجب حبيبته بالقذافي، وهي التي لا تشاهد إلا القنوات الدعائية للقذافي و نظامه. تخاصم احمد مع حبيبته التي تدافع عن القذافي وتركها رغما عنه فهو يحبها حسب ما يتحدث لكنه لا يحب من تحب.

قصة بسيطة لكنها امتداد لليبيا وما دار فيها من مآسي في الأشهر الأخيرة. لأنك حين تجوب شوارع طرابلس وتدخل بيوت أهلها تدرك فعلا أن هذا الشعب قد عانى ويلات لم تكن الكاميرا قادرة على رصدها إلا بعد تحرير العاصمة. تختلط عليك القصص والأقاويل فكل شاب وشابة ليبي لديه ما يقول.

وفي كل حي أو ركن أو شارع صغير قصص دمار وأحداث حزينة حصلت بعيدا عن أي تغطية إعلامية. لكن رغم الحزن والدمار ورغم الفرقة واللوعة، ورغم أن الحرب مازالت مستمرة والظروف المعيشية صعبة يخرج الليبيون كل مساء للشوارع احتفالا بالنصر فهم لا يصدقون بعد أن نظام القذافي الذي جثم على صدورهم أكثر من أربعة عقود، سقط وولَّى عهده.

ليبيات يحتفلن بانتصار الثورةصورة من: DW

انتهت مهمتي مع الجوع والعطش والنقص في الماء ورصدت بالكاميرا مآسي هذه الحرب وآثار دمارها، أمضيت أياما وقفت فيها على شراسة ثمانية أشهر من الحرب والدمار والقصف والأمراض النفسية والمادية التي خلفها النظام الليبي الجائرفي عقول وقلوب الشعب الليبي.

غادرت النزل الذي بدأ يدب فيه النشاط ويعود له عماله الذين غابوا عنه شهورا هربا من بطش القصف والقنص. قبل أن أغادر الفندق أوصيت الثوار الليبيين الذين يسيطرون على الفندق خيرا بثورتهم. فصحيح أنهم مازالوا يعيشون نشوة الحرية والانتصار وصحيح أنهم يرقصون اليوم على وقع سيمفونية الثورة للخلاص من نظام جائر لكن ما عرفته عن ثورات الربيع العربي في الأشهر الأخيرة تجعلني أخشى على هؤلاء الثوار الصغار المدججين بالسلاح للدفاع عن حياتهم، وعلى مستقبل بلادهم ليبيا.

لقد عشت في تونس ثورة مجيدة كانت اخف على التونسيين من وطأة الثورة الليبية الدامية على الليبيين، حيث طالت معاناتهم وكانت أكثر دموية وقسوة. لكن يجب أن أخشى على هؤلاء اللبيبين اليوم فهم يعيشون لحظات تاريخية يجب ان يمضوا فيها نحو بناء دولة حديثة ديمقراطية متماسكة لا أن يستفيقوا يوما مثل ما نستفيق نحن التونسيون الآن على صراعات قبلية واضطرابات أمنية وتناحر من اجل سلطة جديدة أو ربما دكتاتورية جديدة ذات أبعاد ثورية فارغة من محتواها.

لقد نجح هؤلاء الثوار الليبيون الصامدون في طرد الدكتاتور وابعاده عن ديارهم، لكن هل سيتوج هذا النصر بنصر البناء و تجاوز أربعين عاما من التسلط والظلم و الجشع السياسي؟ سيبقى هذا السؤال قائما طبعا حتى تستفيق ليبيا من نشوة انتصار الثورة ويبدأ بناء مرحلة جديدة دفع الليبيون من اجلها دماء كثيرة ودمارا ماديا ونفسيا.

مبروكة خذير – طرابلس

مراجعة: منصف السليمي

تخطي إلى الجزء التالي اكتشاف المزيد
تخطي إلى الجزء التالي موضوع DW الرئيسي

موضوع DW الرئيسي

تخطي إلى الجزء التالي المزيد من الموضوعات من DW