مشاهداتي: الجيش الألماني بعد هتلر
١٠ يوليو ٢٠١٧في مدخل معسكرٍ للجيش الألماني الاتحادي "بوندِس فير" أعد لتدريبٍ مشتركٍ مع الأمم المتحدة، طلب الجندي بطاقتي مستفسراً عن سبب الزيارة. وحين أخبرته أننا في بعثة تدريب الصحفيين العاملين في مناطق الاشتباكات، ارتسمت على وجههِ الفتي ابتسامةٌ عريضة وفتح لي العارضة متيحاً لي الدخول بعد أن هاتف شخصاً ليأتي فيأخذني إلى مكان إقامتنا.
أمضيت مع صحفيين وصحفيات أسبوع تدريبٍ شاق، تعرضنا فيه لعمليات خطّف مدبرة وكمائن مسلحين وهمية وسط طريق جبلي ووسط الغابات، أُريد بها تقريب المشاركين إلى أجواء المناطق الساخنة.
لفت نظري اختلاط المجندين بالمجندات، حتى في غرف النوم، وسألت الرائد شولتز"مايور شولتز" القائم على دورتنا عن حدود الاختلاط بين المجندين والمجندات فابتسم مؤكداً أنّه اختلاط في حدود العمل طبعاً. واعدت عليه السؤال مؤكداً على العلاقات الحميمة، وهل هي متاحة بين الجنسين في المعسكرات؟ فضحك وأجاب: "القانون لا يمنع ذلك، والموضوع يقرره الطرفان في النهاية، الجيش لا يتدخل في الشؤون الخاصة للمنتسبين".
وماذا إذا حصل حمل؟
هذا ينظّمه القانون، ولا علاقة لنا به.
ولكن المجندة ستغيب عن العمل؟ فيفقد الجيش جندياً بسبب علاقة؟
العلاقة هنا تخضع للقانون المدني، والمجندة ستخضع لقانون الأمومة المدني.
وإذا لم تكن متزوجة منه؟
ضحك الرائد شولتز بصوت مسموع وقال "متزوجة أم غير متزوجة، فهي ستكون أماً وستشملها حقوق الأم في ألمانيا كاملة، وتحظى بإجازة أمومة وحضانة ورعاية، وإذا كان حملها صعباً، فتُمنح قبل الولادة أيضاً أجازة حمل".
ومع استغرابي الشديد لما قاله - وأنا القادم من بلد مازال منذ خمسة عقود يدور في دوامات حروب لا تنتهي- مضيت أتهجى حروف الحياة مع الجيش الألماني في معسكرٍ سبق أن كان معتقلاً نازياً لسجناءِ جيوشٍ أوروبية من الحروب التي شنها هتلر الباحث عن حلم قيادة العالم.
حين تقترب من العسكرية الألمانية، بعد أن عشت سنوات في ألمانيا، ستذهلك قدرة هذا الشعب على التنظيم. فهذا الجيش قام عام 1955 على أنقاض الجيش النازي المنهار، وقُصد منه أن يكون جيشاً دفاعياً يحمي البلد ويحيي قيم العسكرية البروسية القديمة، ولكن مهمته بموجب الدستور اقتصرت على الدفاع، وعديده حُدد بـ 370 ألف مقاتل في قوات الجيش، والبحرية والقوة الجوية.
لفت نظري أثناء تناولي لوجبات الطعام في مطعم الثكنة وجود أعداد لا بأس بها من جنود ومجندات يافعين جداً، وكنت قد سمعت عنهم في وسائل الإعلام، وها أنا أراهم بعيني.
وسألت إحدى ضابطات الصف اللواتي يتولين تدريبنا عنهم، وهل هم جنود في الجيش، فأوضحت أنّهم جيش من المتدربين والمتدربات دون السن القانوني، وهم من طلبة المدارس، ومستمرون في دراستهم من خلال الانخراط في الجيش، ولكنّهم في هذا الوقت غير محاربين، ولا يتدربون على حمل السلاح، وتشير إحصاءات الجيش إلى أن عددهم يبلغ 1907 منتسباً. ثم ابتسمت وهي تضيف "ومعهم بالطبع 375 طالبة مراهقة تحت التأهيل".
هذا بالضبط ما سألني عنه قبل فترة قصيرة أحد معارفي بعد أن أخبرت المعلمة نجله بإمكانية انخراطه في الجيش الاتحادي حتى وهو في سن السادسة عشرة للحصول على الدراسة والتدريب للمستقبل. وهو أسلوب إنساني ناجح يضمن دخلاً ومأوى ومستقبلاً وتأهيلاً لليافعين الذين لا يملكون من ينفق عليهم، أو الراغبين في الاستقلال المبكر عن ذويهم.
ويثير استغرابي الجدل السياسي الجاري منذ أشهر حول انخراط اليافعين في الجيش الاتحادي، والذي يعتبره بعض الناشطين من دعاة السلام منافياً لحقوق الطفولة. فالجيش يضمن للمتطوعين سكناً وطعاماً في الثكنات، وراتباً مقداره 837 يورو كبداية، فضلاً عن فرص تأهيل مهني وحتى جامعي لا متناهية وقد لا تكون متاحة للمراهق خارج المؤسسة العسكرية.
وهذا هو الفرق بين مقاتلين في العاشرة تبتلعهم الحروب ويتاجر بهم أمراؤها، وبين متدربين بأجور محترمة، يبقون في الثكنات دارسين حتى يبلغوا سن الثامنة عشرة ليخدموا بعدها وطنهم!
ملهم الملائكة - صحفي من أصل عراقي ضمن هيئة تحرير DW.
*هذه مقالة رأي تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس وجهة نظر DW عربية بالضرورة.