1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

مشاهداتي: في بيت كارل ماركس.. "معبد الشيوعية"

ملهم الملائكة
٣١ يوليو ٢٠١٧

وصلتُ ترير أقدم مدينة ألمانية مساءً، فنبهني أحد الأصدقاء على فيسبوك إلى ضرورة زيارة بيت المفكر الألماني كارل ماركس. صباح اليوم التالي تخطيت عتبة بيته بذهول ورهبة وكأنّي أعبر بوابة معبد صانع الفكر الشيوعي.

Deutschland Trier Karl-Marx-Haus
صورة من: picture-alliance/dpa/T. Frey

بيت متواضع من عصر الباروك في شارع بروكن شتراسه يحمل الرقم 10، تتقاسم واجهته ألوان رمادية وزرقاء وسقف من القرميد الرصاصي معتم اللون، بابه خشبي وكذلك نوافذه البيضاء التي أسدلت عليها قضبان معدنية تحميها. يقع البيت في شارع تجاري ضيق بقلب مدينة "ترير" غرب ألمانيا، هنا ولد كارل ماركس عام 1818.

عبرت البوابة العتيقة فوجدت نفسي في محطة استعلامات صغيرة تبيع التذاكر والتذكارات، تستقبلني من خلف فترينته زجاجية متواضعة سيدة خمسينية باسمة ترحب بي، وتتمنى لي زيارة موفقة لبيت الرجل الذي ترك في العالم تغيرات وآثاراً، رسمتها أنهار من الدم عبر العالم. ولفت نظري أنّ سعر بطاقة الدخول كان متواضعا (4 يوروات) ولتلامذة المدارس يورو واحد.

الطابق الأرضي يلخص ملامح من محطات الصراع المر بين أفكار ماركس، ومن تبعوه وخاصة ما فعله النازيون ببيته وكيف حولوه الى مطبعة تراكمت القمامة تحت نوافذها. صرير أرضية المكان الخشبية تحت أقدامي يروي قصة أقدام ماركس وأخوته التسعة في هذا البيت، ومن عجب أنّه كبر فاتخذه مسكناً له ولأسرته الكبيرة.

على الجدار قرأت شعاره الذي أصاب في زمنٍ ما كبد السياسة في الصميم "يا عمال العالم اتحدوا"، وأمر بتمثاله الرأسي البرونزي باللحية الكثة الشهيرة وكأني أوشك أن أكلمه. أما الغرفة رقم 11 فتعرض محطات شباب فيلسوف الفكر الشيوعي الأكبر، وعلى الجدار تنتصب صورة غرافيك صفراء لزوجته ورفيقة حياته الصعبة جيني فون فيستفالن التي انجبت له سبعة ابناء.

الغرفة 13 تعرض وقائع لقاء ماركس بفريدرش انغلز، وقصة سفر ماركس الى باريسصورة من: picture-alliance/dpa/T. Frey

لا يسع من يزور هذا البيت إلا أن يتذكر كلّ الشيوعيين الذين سمع بهم والذين عايشهم والذين كان شاهداً على تطوراتهم، متأملاً كيف تسمو الدولة والإنسان على خلافات السياسة في هذا البلد. فألمانيا التي تمثل أحدى قمم الرأسمالية لم تعتبر كارل ماركس، الأب الروحي للعقيدة الشيوعية، خصمها اللدود الذي حاول إسقاطها وسحق كل الأنظمة الرأسمالية، بل تعده ابن ألمانيا البار وجزءاً من تراثها الذي يجب صيانته والافتخار به.

فاجأتني تفاصيل كتبت في الغرفة 12 وفي الغرفة 13 في الطابق الثاني عن علاقته الوشيجة بالفيلسوف فريديرش إنجلز، وكيف تطورت تلك العلاقة إلى نضال سياسي، جعلهما يجدّان في البحث عن بدائل صحفية يمرران خلالها أفكارهما بعد أن رفضت صحف كثيرة مقالاتهما وافكارهما. صور وغرافيك على الجدران تعرض ما عرفته أوروبا بربيع الشعوب عام 1848، الذي انطلق بثورة من فرنسا "كومونة باريس الثانية" واجتاح 50 بلداً أوروبياً محكّاً حقيقياً لاختبار أفكار ماركس ورفيقه إنجلز ودعواتهما.

الطابق الثاني من البيت تحزّمه شرفة مسقوفة ويحددها سياج خشبي تتوزع عليه أصص الزهور الحمراء كأنه كرنفال. الشرفة تطل على فناء البيت المكشوف وفيه بعض العرائش المزهرة. على جدار داخلي يقود للغرفة 14 تستقر نسخ كتب الكترونية بلغات مختلفة من البيان الشيوعي الشهير الذي كتبه الفيلسوفان.

الكاتب والصحفي ملهم الملائكةصورة من: DW/A. Al Khashali

على الجدران تكشف الملصقات والصور عن مشاهد حياته الخاصة وقد تداخلت مع محطات كفاحه السياسي، وفجأة اكتشف أنّ ابنته الثانية لاورا المولودة في بروكسل، قد انتحرت بالسم هي وزوجها الثوري الاشتراكي الفرنسي لافارغ، وكانت هي في السادسة والستين وهو في التاسعة والستين عام 1911. وتركا وراءهما رسالة جاء فيها: "ما زلت سليم العقل والبدن، وها أنا أنهي حياتي قبل أن ينال مني أرذل العمر فيسلبني مباهج ولذائذ الحياة واحدة بعد أخرى".

المفاجأة الأخرى على جدران الغرفة نفسها هي أنّ أبنته إليانور المولودة في لندن قد قضت هي الأخرى انتحاراً بعد طلاقها من زوجها الاشتراكي في لندن. وهذا يثير أسئلة عن حياة الفيلسوف الألماني الصاخبة التي مزقتها السياسة، والتي قضى محطات كثيرة منها متنقلاً بين بروكسل وباريس ولندن وألمانيا.

القاعة 15 من البيت مكرسة لمؤلفات ماركس، لاسيما مراحل كتابته لمجلدات كتابه المعروف "رأس المال". على الجدران نسخ مصورة من الأوراق الأولى لمخطوطة الكتاب الذي صدر بثلاثة أجزاء. يأخذني عالم الفكر الذي تجسد في كتابه إلى ما فعله ماركس على الأرض في السياسة، حيث تعرض القاعة 16 علاقته بحركة العمل، والتي ميّزت المرحلة الثانية من حياته السياسية ضمن الرابطة الدولية للعمال "انترناسيوناله اربايتر اسوسياسيون".

بيت كارل ماركس، 10 شارع بروكن بمدينة تريرغرب ألمانياصورة من: picture-alliance/dpa/T. Frey

مساحة البيت الخلفية تشغلها حديقة صغيرة، فيها تماثيل رأسية ونصفية وكاملة لكارل ماركس، تخطيت بينها أتأمل ظهر البيت العتيق واتخيل كيف عاش المفكر الذي هزت عقيدته العالم ولكنها لم تغير ألمانيا ولم تحولها - موحدة على الأقل- إلى دولة شيوعية. المشهد يجبرني على مقارنة هذا الوضع، بالتغيرات السياسية المتعاقبة في بلدي الذي ولدت وكبرت فيه، حيث تمحو السلطات كل ما يتعلق بمعارضيها بعد أن تبيدهم وعائلاتهم.

عند مغادرتي للمكان، استوقفني دكان بيع التذكارات الصغر في المدخل، فاشتريت قدحاً أحمر يحمل صورة ماركس، وسألت السيدة الواقفة إلى الفترينه إن كانت عائلة ماركس هي التي تتولى إدارة المتحف والإنفاق عليه، كما هو مألوف في بعض بيوت الفنانين والكتاب التي باتت متاحف في عموم البلد، هزت رأسها ذي الشعر القصير بالنفي، مؤكدة مع ابتسامة مبتسرة أّنّ الحزب الاشتراكي الديمقراطي يشرف على المكان ويموله من خلال مؤسسة "فريديش إيبرت شتيفتونغ". 

ملهم الملائكة - كاتب من أصل عراقي يعمل ضمن هيئة تحرير DW

* المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي DW

تخطي إلى الجزء التالي اكتشاف المزيد

اكتشاف المزيد

تخطي إلى الجزء التالي موضوع DW الرئيسي

موضوع DW الرئيسي

تخطي إلى الجزء التالي المزيد من الموضوعات من DW