مظلة نووية فرنسية لحماية أوروبا.. هل يُقبل عرض ماكرون؟
٢٠ مايو ٢٠٢٥
المكان: العاصمة الفرنسية باريس، الزمان: 14 يوليو/ تموز 1965، المناسبة: عيد وطني في فرنسا. من بين سلاح الفرسان والموسيقى العسكرية وأعمدة الدبابات، فجأة يبرز شيء غير عادي على طول شارع العاصمة الفرنسية: صواريخ نووية على منصات إطلاق متحركة وقاذفات الميراج تدوي في السماء.
لقد كانت هذه المرة الأولى التي تعرض فيها فرنسا قوتها الرادعة النووية "القوة الضاربة" على الرأي العام العالمي. في العقود التالية، أصبحت بمثابة القلب الاستراتيجي للسياسة الدفاعية الفرنسية، تحت سيطرة وطنية بحتة ومستقلة بشكل كلي. القنبلة لا تمنح فرنسا مكانة دائمة في نادي القوى النووية فحسب، بل تمنحها أيضاً أداة للسياسة القائمة على القوة. ولكنها مكلفة: إذ يتم إنفاق أكثر من عشرة في المائة من ميزانية الدفاع سنويا على صيانتها وتحديثها. وهو عبء كبير بالنظر إلى الدين الوطني الفرنسي المرتفع.
سلاح الردع الفرنسي
لم تتغير العقيدة النووية في فرنسا كثيراً منذ عهد الرئيس الفرنسي الأسبق، شارل ديغول. إذ تهدف إلى حماية "المصالح الحيوية" لفرنسا، وهو مصطلح غامض قد يشمل أو لا يشمل في حالة الطوارئ الشركاء الأوروبيين. وبحسب العقيدة فإن استخدام الأسلحة النووية لا يهدف إلا إلى الدفاع عن النفس في الحالات القصوى.
والقرار يعود إلى رئيس الجمهورية وحده. وقد أكد رؤساء فرنسا، من ديغول إلى نيكولا ساركوزي، باستمرار على أن هذه المصالح الحيوية لها بعد أوروبي أيضاً. لكن تصريحاتهم ظلت رمزية ولم تتبعها رغبة حقيقية في تقاسم القنبلة، على الأقل علانية، إلى أن جاء ماكرون.
نقطة التحول مع ماكرون
منذ توليه منصبه في عام 2017، لم يغير ماكرون الاستراتيجية النووية الفرنسية، لكنه منحها بعداً أوروبياً. وفي كلمة ألقاها في المدرسة الحربية في فبراير/ شباط عام 2020، صرح ماكرون بأن الردع الفرنسي يخدم أيضاً أمن أوروبا وعرض حواراً استراتيجياً مع الشركاء الأوروبيين. ولقد تم تجاهل هذا الأمر إلى حد كبير في برلين، خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى تقويض الوعد الأميركي بتوفير الحماية لأوروبا.
ولكن النبرة تغيرت الآن: "لقد قدمت فرنسا عرضاً للحديث عن الأمر على الأقل وأنا أقبل مثل هذا العرض"، هذا ما قاله فريدريش ميرتس بعد وقت قصير من أدائه اليمين الدستورية كمستشار لألمانيا. ويرى ميرتس أن الدرع النووي الأميركي يجب أن يستكمل بصواريخ فرنسية وبريطانية: "لا يمكننا أن نستبدل الحماية النووية للولايات المتحدة داخل حلف شمال الأطلسي في أوروبا بمفردنا"، كما قال المستشار. وحتى الآن، لم يحسم ميرتس مسألة ما إذا كان من الممكن اعتبار "القوة الضاربة" بديلاً للمظلة الأميركية في حالة الطوارئ.
ما الذي تقدمه فرنسا؟
لا تقترح فرنسا قنبلة نووية أوروبية مشتركة، بل مسؤولية نووية مشتركة بالتدريج. وهو ما يمثل جوهر عرض ماكرون بإجراء حوار استراتيجي. وذلك عبر دعوة الشركاء الأوروبيين إلى فهم العقيدة النووية الفرنسية التي صيغت بأسلوب "الغموض الاستراتيجي" بشكل أفضل، والمشاركة في المناورات في دور المراقب، كما كان الحال في 2024، حين شاركت طائرة ناقلة إيطالية في مناورة فرنسية. غير أن هذا النقاش النظري الطويل أصبح ملموسا بشكل أكبر.
في مقابلة له على التلفزيون الفرنسي يوم الثلاثاء الماضي، صرح ماكرون بأن بولندا أعربت عن رغبتها في نشر أسلحة نووية فرنسية على أراضيها، على غرار المشاركة النووية في ألمانيا، حيث يتم تخزين القنابل النووية الأمريكية في قاعدة "بوشل" الجوية، بولاية راينلاند بلاتينات الألمانية، والتي يتم نقلها في حالة الطوارئ إلى هدفها بواسطة طائرات الجيش الألماني. وأعرب الرئيس الفرنسي عن استعداده لمناقشة تمديد المظلة النووية الفرنسية "مع جميع الشركاء الذين يرغبون في ذلك". وللمرة الأولى، لم يستبعد ماكرون علناً نشر أسلحة نووية فرنسية في دول أخرى بالاتحاد الأوروبي.
ويرى خبير الأمن الفرنسي البارز، برونو تيرترايس، فإن انفتاح ماكرون يحمل إشارة صامتة: "ما دامت الأسلحة النووية الأميركية موجودة في أوروبا، فمن وجهة النظر الفرنسية لا يوجد سبب حتى لمناقشة ما إذا كان ينبغي تخزين القنابل الفرنسية في ألمانيا أو في أي مكان آخر". رغم ذلك تعمل فرنسا على مواءمة بنيتها التحتية النووية بشكل أوثق مع أوروبا.
وفي قاعدة "لوكسويل سان سوفور"، على بعد 100 كيلومتر فقط من الحدود الألمانية، سيتم تحديث قاعدة عسكرية في السنوات القادمة لتصبح قاعدة أسلحة نووية لطائرات "رافال" المقاتلة. في إشارة إلى أن فرنسا لا تريد فقط الحفاظ على قدرتها النووية، بل تريد أيضا توسيعها بطريقة مستهدفة وأن قوة فرنسا النووية تقترب من أوروبا الوسطى.
ما الذي يبطئ المشروع؟
تملك فرنسا حاليا حوالي 300 رأس نووي. وهو عدد كافي للردع الوطني، ولكن ليس كافيا لنظام حماية أوروبي شامل. تم تصميم أنظمة حاملات الطائرات والغواصات الحاملة للصواريخ الباليستية والأنظمة التي يتم إطلاقها جواً لتتناسب مع متطلبات المهمة الفرنسية. "أريد أن أناقش هذا الأمر، لكن فرنسا لن تدفع ثمن أمن الآخرين"، هذا ما يوضحه الرئيس الفرنسي الآن. "لن يكون ذلك على حساب احتياجاتنا. والقرار النهائي بيد رئيس الجمهورية، القائد الأعلى للقوات المسلحة".
أما الرسالة الخفية التي أراد ماكرون تمريرها هي أن التوسع تحت مظلة الردع الفرنسية يتطلب قدرات أكبر وكذلك المزيد من أنظمة التسليم، والبنية الأساسية الإضافية، والتدريبات الأكثر كثافة، وأن فرنسا قادرة على تحمل هذه التكلفة، ولكنها غير مستعدة لتمويلها بمفردها. كل من يريد الحماية يجب أن يشارك سياسيا، ولوجستيا، وماليا.
على الرغم من ذلك يستبعد ماكرون بشكل قاطع أي سيطرة أو قرار مشترك من جانب الشركاء فيما يتعلق باستخدام الأسلحة النووية. مجموعة التخطيط النووي التابعة لحلف شمال الأطلسي تناقش، ولكنها لا تتخذ القرارات. لأن القرار النهائي بشأن نشر هذه القوات يقع على عاتق الرئيس الأمريكي وحده، والذي هو في الوقت الحالي في يد دونالد ترامب.
نقاش تاريخي
إن النقاش النووي الحالي يعود إلى ستينيات القرن العشرين، عندما كانت لدى واشنطن خطط لإنشاء قوة نووية متعددة الأطراف "أسطول تابع لحلف شمال الأطلسي يحمل أسلحة نووية مشتركة". رفض شارل ديغول المشروع ودعا إلى بديل في بون: "من المؤكد أنك لا تعتقد أن الأميركيين سيمنحونك أي نفوذ حقيقي في الجبهة. لماذا لا تنضم إلينا؟" كما قال الرئيس الفرنسي لوزير الدولة للشؤون الخارجية في عام 1964. ولكن لم يتم تنفيذ القوة المتعددة الجنسيات ولا المكون النووي الفرنسي الألماني على الإطلاق. في 14 يوليو/تموز 1965، قدمت فرنسا قوة نووية وطنية بحتة إلى الرأي العام العالمي. لكن السؤال ما إذا كانت "القوة الضاربة" ستصبح أوروبية أكثر بعد مرور ستين عاماً، لا يعتمد على باريس فحسب، بل وأيضاً على برلين، ووارسو وواشنطن.
أعدته للعربية: إيمان ملوك