تفاقم الانهيار المالي في لبنان بصورة سريعة في الشهر الماضي مع إصابة معظم البلاد بالشلل بسبب نقص الوقود الذي تسبب في وقوع حوادث أمنية في جميع أنحاء لبنان. وأدى التدهور السريع في لبنان، الذي تفاقم بسبب الجمود السياسي، إلى إثارة قلق الغرب. ودق بعض كبار المسؤولين اللبنانيين ناقوس الخطر بشأن بلد قضى 30 عاماً يتعافى ببطء من الحرب الأهلية التي استمرت من عام 1975 حتى عام 1990.
واتفق رئيس الوزراء نجيب ميقاتي مع الرئيس ميشيل عون يوم الجمعة (10 أيلول/سبتمبر) على تشكيل حكومة جديدة، ما حرك آمالاً في أن تتخذ الدولة أخيراً إجراءات لوقف الانهيار والدخول من جديد في محادثات مع صندوق النقد الدولي، على الرغم من إخفاق جميع الحكومات السابقة في تطبيق الإصلاحات اللازمة. وفيما يلي نظرة عامة على الجوانب المختلفة للأزمة.
الانهيار الاقتصادي
سقط نحو 78 في المئة من اللبنانيين في براثن الفقر على مدى عامين. ويقول البنك الدولي إنها إحدى أشد حالات الكساد في العصر الحديث. وتخلف لبنان في بدايات الأزمة عن سداد الدين العام الضخم بما في ذلك 31 مليار دولار من سندات اليوروبوند التي لا تزال مستحقة للدائنين.
وانخفضت قيمة العملة أكثر من 90 في المئة مما أدى إلى تدمير القوة الشرائية في بلد يعتمد على الواردات. وأصيب النظام المصرفي بالشلل. ومع منع المودعين من سحب مدخراتهم بالعملات الأجنبية أو إجبارهم على سحب النقود بالعملة المحلية المنهارة فإن هذا يعد حالياً بمثابة هبوط فعلي في قيمة الودائع بنسبة 80 في المئة.
وذكر برنامج الغذاء العالمي أن أسعار المواد الغذائية قفزت 557 في المئة منذ تشرين الأول/أكتوبر 2019، كما انكمش الاقتصاد بنسبة 30 في المئة منذ 2017. وأدى نقص الوقود إلى إصابة الحياة العادية بالشلل مما أثر على الخدمات الأساسية بما في ذلك المستشفيات والمخابز. ونفذت أيضاً الأدوية الحيوية. وغادر كثيرون من اللبنانيين أصحاب الكفاءات البلاد في هجرة مستمرة للمهارات. تراجع الأمن أدى نقص الوقود إلى وقوع مواجهات في محطات البنزين حيث يضطر سائقو السيارات إلى الانتظار لساعات، وكادت تحدث مواجهات بالأسلحة خلال مشاجرات على الوقود. وخُطفت شاحنات لنقل الوقود. وتحول أحد الخلافات على البنزين في جنوب لبنان إلى مواجهة طائفية بين قرى شيعية ومسيحية مجاورة.
ويشجع تراجع مكانة الدولة على الخروج على القانون في مناطق من لبنان. واستخدمت البنادق الآلية الثقيلة والقذائف الصاروخية في معركة وقعت في الآونة الأخيرة بين عشائر سنية متناحرة في شمال لبنان. ويزيد كل هذا من الضغط على قوات الأمن. وحذرت قيادات أمنية من تأثير الأزمة على مؤسسات الدولة بما في ذلك الجيش مع انخفاض قيمة رواتب الجنود مع تراجع الليرة. وحث اللواء عباس إبراهيم المدير العام للأمن اللبناني ضباطه على الوقوف بحزم في مواجهة الأزمة، محذراً من الفوضى التي ستنجم عن انهيار الدولة.
المشهد السياسي
وصفة إصلاح الوضع معروفة. فقد وعد المانحون مراراً بتقديم أموال إذا بدأ لبنان في إصلاحات لمعالجة الأسباب الجذرية للانهيار، بما في ذلك اتخاذ خطوات لمكافحة الفساد في الحكومة. لكن بدلاً من القيام بما هو ضروري، ظل الساسة الطائفيون في لبنان، الذين حارب كثيرون منهم في الحرب الأهلية، على خلاف بشأن المقاعد في الحكومة الجديدة لأكثر من عام قبل الانفراجة التي حدثت يوم الجمعة.
أزمة لبنان.. هل تنهيها الحكومة الجديدة؟
40:47
واتهم خصوم الرئيس ميشال عون، وهو مسيحي ماروني، عون والتيار الوطني الحر الذي ينتمي إليه بعرقلة العملية من خلال المطالبة بأن يكون له حق النقض بشكل فعال في الحكومة الجديدة. ونفى عون مراراً تقديم هذا الطلب. وكان للخلاف أبعاد طائفية مع اتهام ساسة سنة، بمن فيهم رئيس الوزراء السابق سعد الحريري، عون بمحاولة تقويض منصب رئيس الوزراء المخصص للسنة. وعون حليف لجماعة حزب الله الشيعية المدعومة من إيران والمدججة بالسلاح.
وأكد ميقاتي يوم الجمعة للبنانيين أن مجلس الوزراء سينحي الخلافات السياسية جانبا ويركز على المهمة الملقاة على عاتقه. وتقول مصادر سياسية إن انتخابات الربيع المقبل، التي تعهد ميقاتي يوم الجمعة بأنها ستجرى في موعدها، تزيد من تعقيد العملية، مع تركيز الأحزاب على الحفاظ على مقاعدها أكثر من تركيزها على إنقاذ لبنان. وأضاف قرار حزب الله باستيراد الوقود من إيران قدراً أكبر من التعقيد على المشهد السياسي. وكان حزب الله قد دعا مراراً لتشكيل حكومة جديدة. ويتهم معارضو حزب الله الجماعة بأنها تقوض الدولة بشكل أكبر، وتعرض لبنان لخطر فرض الولايات المتحدة عقوبات عليه.
وما زالت دول الخليج، التي تقدم أموالا للبنان بشكل تقليدي، مترددة حتى الآن في القيام بذلك، بسبب تنامي نفوذ حزب الله المدعوم من إيران. وقال ميقاتي يوم الجمعة إن لبنان بحاجة إلى العالم العربي وإنه لن يترك أي فرص لفتح الأبواب مع جيرانه العرب.
م.ع.ح/ع.ج.م (رويترز)
لبنان 100 عام.. من طوائف الجبل إلى دولة على شفا الانهيار
لبنان.. بلد صغير المساحة، لكنه يختزل على مدار قرن من إعلان قيامه أحداثاً كبيرة جعلته صورة مصغرة عما جرى في العالم العربي من خيبات متواصلة. يحتضن تاريخه كل شيء: العنف والصلح، الحرب والسلم، الرخاء والشدة، الوطنية والتبعية.
صورة من: Getty Images/AFP/J. Eid
فتنة جبل لبنان
سكنت عدة طوائف في المناطق المعروفة حالياً بلبنان، خاصة منطقة جبل لبنان. لكن الطوائف الأبرز كانت ستة: الموارنة والأرثودوكس والكاثوليك، وفي الجانب الآخر الدروز والسنة والشيعة. بقي الجبل تحت سيطرة العثمانيين، لكنه شهد توترات طائفية خطيرة خاصة المجازر بين الدروز والموارنة عام 1860. تدخلت قوى أوروبية في المنطقة خاصة منها فرنسا، وشهد جبل لبنان بضغط أوروبي قيام نظام "المتصرفية" الذي عزّز الوجود الماروني.
صورة من: picture-alliance/Design Pics
قيام لبنان الكبير
بعد هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى، استطاعت فرنسا فرض انتدابها على لبنان بعد توسيعه ليضم البقاع وولاية بيروت فضلاً عن ترسيم الحدود مع سوريا. ويقول جوزيف باحوط في مقال على كارنيغي إن فرنسا هدفت إلى خلق وطن شبه قومي للمسيحيين في الشرق الأوسط، لكن الطوائف المسلمة رفضت بشدة الوضع الجديد. أعلن لبنان استقلاله عام 1943 على يد الرئيس بشارة الخوري، لكن جلاء القوات الفرنسية لم يتم إلّا عام 1946.
صورة من: picture-alliance/United Archives/TopFoto
الميثاق الوطني
شهد إعلان استقلال لبنان ما عُرف بالميثاق الوطني الذي منح رئاسة الدولة للموارنة ورئاسة الوزراء للسنة ورئاسة مجلس النواب للشيعة. وكان هدف الميثاق تسهيل الاستقلال حتى لا يطلب المسيحيون حماية فرنسا ولا يطالب المسلمون بالوحدة مع سوريا. لم يُكتب الميثاق لكنه بقي مطبقاً في البلاد منذ ذلك الحين، ويرى متتبعون أنه سبب المشاكل الطائفية في البلاد بما أنه هو من أسس لنظام المحاصصة.
صورة من: picture-alliance/dpa/W. Hamzeh
إنهاء حكم شمعون
تحوّلت بيروت إلى مدينة تجمع الكل منذ سنوات الاستقلال، لكن اندلاع النزاع العربي-الإسرائيلى ألقى بظلاله على بلد يصارع لخلق هويته. استقبلت بيروت آلاف اللاجئين الفلسطينيين كما استقبلت مهاجرين عرب وشهدت نمواً اقتصادياً لكن في الآن ذاته ركزت قوى عربية متصارعة نفوذها داخل المدينة منذ ذلك الحين. غير أن أبرز حدث شهدته بيروت في الخمسينيات كان الانتفاضة ضد الرئيس كميل شمعون الذي كان له علاقات قوية مع الغرب.
صورة من: Imago Images/United Archives International
العصر الشهابي
من بين أكثر رؤساء لبنان احتراما هو فؤاد شهاب الذي حكم البلاد منذ 1958 إلى 1964 ورفض التمديد له رغم شعبيته الطاغية. تحقق في عهد شهاب الكثير من الاستقرار في البلد رغم الانتقادات الموجهة له بتقوية دور المخابرات بعد محاولة الانقلاب. جاء بعده شارل حلو الذي حاول اتباع النهج الشهابي بعدم تفضيل أيّ طرف سياسي على آخر، لكن البلد شهد في عهده عدة مشاكل اقتصادية، ما مهد الباب لسليمان إفرنجية ليخلفه.
صورة من: picture-alliance/dpa/M. Tödt
الحرب الأهلية تندلع
شهد لبنان توقيع اتفاق القاهرة عام 1969 بين الفصائل الفلسطينية في مخيمات اللاجئين وبين الدولة اللبنانية حتى لا تتكرر مناوشات بين الطرفين، وبموجبه تم الاعتراف بالوجود الفلسطيني المسلح في لبنان. وقف اليسار اللبناني مع الفلسطينيين، في حين رفضهم اليمين المشكل أساساً من منظمات مارونية. ومع تعاظم النفوذ الفلسطيني تعددت الاحتكاكات مع القوى اليمينية، لتندلع رسمياً الحرب الأهلية في أبريل/ نيسان 1975.
صورة من: picture-alliance/AP Photo/M. Raouf
بيروت تشتعل
قُسمت بيروت إلى شرقية تحت سيطرة القوات اليمينية وغربية للفلسطينيين والقوات اليسارية. زاد التناحر الطائفي بين المسلمين والمسيحيين من الحرب خاصة مع وجود اختلالات اجتماعية بينهم. زاد التدخل السوري من سعير الحرب، وكذلك فعلت إسرائيل عندما اجتاحت لبنان عام 1982 وحاصرت بيروت الغربية ما أدى إلى جلاء المسلحين الفلسطينيين، لكن الحرب لم تنته، ووقعت بعد ذلك مواجهات حتى داخل الأطراف التي كانت متحالفة.
صورة من: Ziad Saab
حزب الله يخرج منتصرًا
انتهت الحرب رسميا عام 1991 سنتين بعد توقيع اتفاق الطائف. شهدت الحرب مجازر مروعة كالكرنتينا والدامور وصبرا وشاتيلا، ووثقت الكاميرات مشاهد مرعبة كما جرى في حصار بيروت وحرب المخيمات. تقوّت لاحقا التنظيمات الشيعية، وخصوصا حزب الله المرتبط بإيران، وبقي التنظيم محافظًا على سلاحه بعد حلّ كل الميلشيات، فتراجع نفوذ التنظيمات المسلحة اليمينية واليسارية والفلسطينية، كما ضمنت سوريا استمرار حضورها في البلد.
صورة من: Getty Images/AFP/A. Amro
الاغتيالات تستمر
استقر لبنان نسبيا في التسعينيات، لكن سنوات الألفية شهدت مواجهات مسلحة بين حزب الله وإسرائيل في صيف 2006، لكن الهزة الأعنف كانت اغتيال رفيق الحريري، رئيس الوزراء السابق الذي ساهم في إعمار لبنان. كانت من نتائج الاغتيال خروج القوات السورية نتيجة ما عُرف بـ "ثورة الأرز". شهد البلد في تلك السنوات استمرار الاغتيالات السياسية التي وجهت فيها الاتهامات لدمشق كاغتيال الشيوعي جورج حاوي والصحفي سمير قصير.
صورة من: picture-alliance/dpa/N. Mounzer
حراك لبنان
لأول مرة في تاريخ البلاد، يخرج مئات الآلاف من اللبنانيين عام 2019 رفضاً لنظام المحاصصة الطائفية، مطالبين برحيل الطبقة السياسية ككل. جاءت الاحتجاجات في ظل استمرار ترّدي الوضع الاقتصادي وارتفاع نسب الفساد، ما أدى إلى استقالة حكومة سعد الحريري، وتشكيل حكومة حسان دياب التي استقالت بدورها بعد انفجار مرفأ بيروت الذي أودى بحياة ما يناهز مئتي قتيل. تقرير: إسماعيل عزام