مهمة معقدة .. إعادة بناء التراث الثقافي المدمر في سوريا
٢٣ ديسمبر ٢٠٢٤
هوية سوريا الحضارية مركبة، بدءًا من العمارة اليونانية الرومانية في تدمر، إلى أقدم مكان عبادة مسيحي، وصولًا إلى القلاع والمساجد الفريدة. يعمل خبراء التراث على حماية ما تبقى من الثروات الثقافية المدمرة في البلاد.
إعلان
صدمت صور المعابد والأبراج المنهارة التي يعود عمرها إلى 2000 عام في مدينة تدمر الأثرية بسوريا العالم عندما ظهرت في عام 2015. دُمّرت هذه المواقع على يد تنظيم الدولة الإسلامية الذي كان يسيطر حينها على أجزاء من سوريا. وتدمر هي واحدة من مواقع التراث العالمي التابعة لليونسكو التي دُمرت خلال الحرب الضارية، بما في ذلك مدينة حلب القديمة وقلعتها التي تعد من أقدم القلاع في العالم. والآن، بعد سقوط نظام بشار الأسد ونهاية أكثر من 50 عامًا من الديكتاتورية تحت حكم عائلة الأسد، هناك أمل في أن يتم حصر التراث الثقافي للأمة وحمايته وربما حتى استعادته.
على سبيل المثال، دعت منظمة مراقبة التراث العالمي/ World Heritage Watch التي تتخذ من ألمانيا مقرًا لها، الحكومة الانتقالية برئاسة هيئة تحرير الشام إلى ضمان "الحماية والحفاظ على التراث الثقافي لجميع المجموعات الدينية والعرقية ولكافة الفترات من التاريخ الطويل لسوريا". ولكن كيف سيكون هذا ممكنًا في وقت يشهد اضطرابات سياسية كبيرة وحالة من عدم اليقين؟
توثيق الآثار المفقودة والمتضررة
واجه علماء الآثار داخل سوريا وخارجها صعوبات كبيرة في تحديد حجم الأضرار التي لحقت بالتراث الثقافي بعد سنوات طويلة من النزاع المسلح. ومع ذلك، ساهمت مبادرات مثل مشروع الأرشيف السوري للتراث، الذي يتخذ من برلين مقرًا له، في جمع ورقمنة مئات الآلاف من الصور والأفلام والتقارير التي توثق الكنوز الثقافية والطبيعية لسوريا قبل الحرب وبعدها.
أُسس المشروع جزئيًا بمساهمة لاجئين سوريين فروا من وطنهم، ويهدف في نهاية المطاف إلى إنشاء سجل شامل لما تم تدميره، بحيث يمكن إعادة بنائه عندما يعم السلام في سوريا. لكن وسط هذه الفوضى، لا يزال هناك الكثير من الغموض يحيط بحالة الأصول الثقافية الغنية في سوريا.
نهب واسع للآثار وصعوبة توثيقها
بحسب شيرين الشلاح، الباحثة اللبنانية السورية في جامعة نيو ساوث ويلز بأستراليا، فإن نهب الآثار على نطاق واسع من المتاحف السورية لم يوثق بشكل شامل. وأضافت أن التراث الثقافي غير المادي في سوريا تعرض لأضرار واسعة النطاق، ولكنه أكثر صعوبة في القياس. وأشارت إلى أن مهارات الحرفيين، مثل فنون البناء بالحجارة، تضيع بسبب النزوح الواسع في البلاد التي مزقتها الحرب.
من جانبه، أوضح نور منور، الباحث في التراث الثقافي وخبير الشؤون السورية في جامعة أمستردام واليونسكو، أن التكنولوجيا مثل صور الأقمار الصناعية والاستشعار عن بُعد ساعدت خبراء التراث في تقييم "نوع وحجم الأضرار" التي لحقت. وأضاف في حوار مع DW أن هذا يشمل "النهب، الحفريات غير القانونية، والاتجار بالأشياء الثقافية".
لكن حجم الصراع قيّد إمكانية إعداد جرد شامل للخسائر التي لحقت بالتراث الثقافي السوري، وفقًا لما ذكره لوكاس ليكسينسكي، أستاذ القانون العالمي والعام في جامعة نيو ساوث ويلز. وقال ليكسينسكي: "المعلومات دائمًا متفرقة وغالبًا ما تعتمد على أشخاص يخاطرون بحياتهم للوصول إلى المواقع."
وأضاف أن الحفريات غير القانونية التي فُتحت خلالها مواقع "دون أي توثيق" كانت جزءًا من سوق سوداء مولت الحرب جزئيًا. وأشار إلى أن "البلاد تبدو في طريقها إلى استقرار أكبر"، لكن أي جهد لتعقب واستعادة الآثار المنهوبة "قد يستغرق سنوات أخرى".
التعاون مع المجتمع المدني السوري
إذا تمكنت هيئة تحرير الشام والحكومة السورية الجديدة بعد الأسد من تأمين مواقع التراث الثقافي في البلاد، سيكون من الضروري أن يقرر المجتمع المدني السوري نفسه عملية الترميم بما يتماشى مع هويته الفريدة، بحسب شيرين الشلاح. وأضافت: "التراث الثقافي هو مساهمة شعوب معينة في العالم، وهذه الشعوب هي الأقدر على الحفاظ عليه، ومن حقها الوصول إليه والاستمتاع به ونقله للأجيال القادمة."
تتشكل هذه الهوية من حضارات متعددة، بدءًا من العمارة اليونانية الرومانية التي تعود إلى 2000 عام في تدمر، إلى أقدم مكان عبادة مسيحي معروف في دورا أوروبوس، وصولًا إلى القلاع والمساجد الفريدة من القرن الثالث عشر والخانات من القرن الثامن عشر في حلب ودمشق القديمة.
وقال لوكاس ليكسينسكي: "يعود الأمر للشعب السوري لتقرير من يريد أن يكون. تحديد هوية سوريا سيساعد السلطات السورية على معرفة أي تراث يجب الحفاظ عليه كما هو، وأي تراث يجب ترميمه، وأي تراث يمكن التخلي عنه."
مع ذلك، أشار نور منور الباحث في التراث الثقافي وخبير الشؤون السورية في جامعة أمستردام واليونسكو، إلى أن منظمات المجتمع المدني السوري العاملة في مجال التراث "تكاد تكون غير موجودة". لذا، ستحتاج المنظمات غير الحكومية الأجنبية وخبراء التراث الثقافي من جهات مثل اليونسكو إلى تقديم الموارد والمساعدات المالية لضمان بدء عمليات التوثيق والحفظ وإعادة الإعمار في حقبة ما بعد الأسد.
وأكدت الشلاح أن هذا التراث الثقافي يجب ألا يقتصر على "التراث المادي الجمالي"، بل يجب أن يشمل مواقع التراث الثقافي التي تحمل دلالات تاريخية، مثل موقع أوشفيتز، الذي يمثل "سجلًا للإبادة الجماعية".
وقالت إن مواقع في سوريا، مثل سجن صيدنايا، يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار للحماية. وأوضحت أن هذا السجن، المعروف باسم "المسلخ البشري" بسبب غرف التعذيب فيه، يجب الحفاظ عليه ليكون "سجلًا لتجارب السجناء السياسيين من سوريا ولبنان وأجزاء أخرى ممن عاشوا تحت نظام قمعي حرمهم من الحقوق الأساسية في حرية التعبير والتجمع، وقام بالتعذيب والمعاملة اللا إنسانية".
أعده للعربية: عباس الخشالي
تاريخ عريق وأهمية استراتيجية.. مدينة حلب تعود لواجهة الأحداث
تعد مدينة حلب، واحدة من أقدم مدن العالم المأهولة دون انقطاع على مدى آلاف السنين. ولم تفقد حلب أهميتها على مر الزمن وفي مختلف العصور حتى يومنا هذا، وهي ذات أهمية استراتيجية وتعد العاصمة الاقتصادية لسوريا.
صورة من: Peter Heiske
ثاني أكبر مدن سوريا
تقع مدينة حلب في أقصى شمال غرب الهضبة السورية، يخترقها نهر قويق الذي ينبع من تركيا. وتقول بعض المصادر التاريخية إن حلب أقدم مدينة مأهولة في العالم، إذ يعود تاريخها إلى القرن العشرين قبل الميلاد.
صورة من: OMAR HAJ KADOUR/AFP
موقع استراتيجي
تتمتع حلب بموقع استراتيجي، حيث أنها تقع على مفترق طرق تجارية متعددة وكانت تمر منها طرق التجارة القديمة وخاصة طريق الحرير، وكانت نقطة وصل بين الشرق والغرب ومحطة مهمة للقوافل التجارية بين أوروبا وآسيا.
صورة من: picture-alliance/dpa/Sputnik
العصر الذهبي
عرفت حلب أبهى عصورها حين كانت مركزا لإمارة الحمدانيين في الفترة ما بين عامي 944 – 1003م تحت حكم أميرها سيف الدولة الحمداني. كما عاشت حلب عصرها الذهبي في ظل الدولة الأيوبية بين عامي 1183 و1259 ولا سيما في عهد الملك الظاهر غازي حيث أصبحت من أجمل مدن الشرق وأكثرها نشاطا وازدهارا.
صورة من: Reuters/K. Ashawi
تنوع ثقافي وإثني وديني
تعتبر مدينة حلب من أكثر المدن السورية تنوعا، ثقافيا ودينيا وإثنيا. حيث يعيش فيها المسلمون والمسيحيون بمختلف طوائفهم والإيزيديون واليهود سابقا. وحلب كانت دائما موطنا لخليط من الشعوب والإثنيات، وقبل الحرب كان فيها العرب والأكراد والأرمن والتركمان والسريان والآشوريون وغيرهم.
صورة من: Fine Art Images/Heritage Images/picture alliance
قطار الشرق السريع
في العهد العثماني أيضا كانت تتمتع حلب بأهمية كبيرة وحافظت على أهميتها التجارية واصبحت في بعض المراحل سوقا رئيسية للشرق كله. وفي بداية القرن العشرين وصل القطار إلى حلب حيث اتصلت بمدينتي حماه ودمشق بسكة حديدية عام 1906 وبإسطنبول وأوروبا عام 1912 عبر قطار الشرق السريع.
صورة من: United Archives/picture alliance
مركز صناعي هام
تشتهر حلب بصناعاتها التقليدية والحديثة على حد سواء، حيث تتركز فيها أهم الصناعات النسيجية والتحويلية والزراعية والعسكرية أيضا. وقبل اندلاع الأزمة والحرب في سوريا، كانت حلب معروفة بوجود العديد من المراكز والمناطق الصناعية والمصانع الكبيرة.
صورة من: Omar Al Diri/AA/picture alliance
ازدهار اقتصادي وصناعي
قبل بدء الأزمة السورية والحرب، شهدت حلب منذ تسعينيات القرن الماضي وخاصة بعد عام 2000 نموا وازدهارا اقتصاديا كبيرا، وتوسعا في القطاع الصناعي وبناء مدن ومناطق صناعية جديدة ومصانع حديثة وتوسيع وتطوير المطار الدولي. وكان عدد السكان يبلغ نحو 4,5 مليون نسمة، وفي عام 2006 تم اختيارها عاصمة للثقافة الإسلامية.
صورة من: SANA/dpa/picture alliance
معالم وأوابد أثرية
تضم حلب العديد من الأوابد والمعابد الأثرية، حتى داخل المدينة، وأهمها القلعة. تعد قلعة حلب واحدة من أكبر وأقدم القلاع القائمة في العالم وتحفة معمارية تعود إلى القرون الوسطى. وأغلب البناء الحالي يعود إلى عهد الدولة الأيوبية. والقلعة تعد رمزا لمدينة حلب حتى اليوم، وهي تتوسط المدينة القديمة.
صورة من: picture-alliance/dpa/S. Kremer
الجامع الكبير
جامع حلب الكبير أو الجامع الأموي أو جامع بني أمية هو أكبر وأحد أقدم المساجد في مدينة حلب السورية. أدرج عام 1986 على قائمة اليونسكو للتراث العالمي. شيدت مئذنة المسجد في عام 1090 ودمرت في نيسان/ أبريل من العام 2013 نتيجة للمعارك التي اندلعت هناك بين القوات الحكومية ومقاتلي المعارضة.
صورة من: Imago/imagebroker
أطول سوق مسقوف في حلب
سوق حلب القديم من أبرز معالمها التاريخية ويسمى أيضا بـ "بازار حلب" ويضم العديد من الأسواق والخانات التاريخية. ويعتبر سوق حلب أطول سوق مسقوف في العالم، إذ يبلغ طول المحور الرئيسي من باب أنطاكيا إلى القلعة حوالي 1200 متر إضافة إلى نحو 40 سوقا تتفرع عنه ليتجاوز الطول الإجمالي للسوق 14 كيلومترا.
صورة من: Issam Hajjar
حسابات الحرب والتحالفات العسكرية
نظرا لأهمية حلب التجارية والصناعية والاقتصادية والتاريخية وموقعها الاستراتيجي المهم، كانت دائما تخضع لحسابات الحرب والتحالفات العسكرية على مر العصور، وحتى يومنا هذا.
صورة من: Rami Alsayed/NurPhoto/Imago
تحرك متأخر
حركة الاحتجاجات والمظاهرات التي شهدتها سوريا عام 2011 والصراع المسلح والمعارك التي شهدت أجزاء من البلاد، لم تصل حلب إلا متأخرة في العام التالي. حيث دخلت المعارضة حلب واستولت على الجزء الشرقي من المدينة، في حين بقي الجزء الغربي تحت سيطرة قوات النظام.
صورة من: Reuters
معارك عنيفة ودمار هائل
شهدت حلب معارك عنيفة بين فصائل المعارضة المسلحة وقوات النظام التي استخدمت الأسلحة الثقيلة والطائرات الحربية. وبقيت المعارضة مسيطرة على جزء كبير من المدينة حتى عام 2016 حيث استعاد النظام السيطرة عليها. ونتيجة ذلك حل دمار هائل في حلب لم تشهده مدن سوريا الأخرى.
صورة من: Louai Beshar/AFP
عودة فصائل المعارضة
نظرا لأهمية حلب استراتيجيا ودورها وتأثيرها على الأزمة والصراع في سوريا، وثقلها الاجتماعي والاقتصادي، حاول النظام التمسك بها، في حين بقيت فصائل المعارضة تتحين الفرصة وتحضر نفسها للسيطرة عليها من جديد، وهذا ما تحقق لها بالهجوم الكبير المفاجئ الذي شنته هيئة تحرير الشام وحلفاؤها في آواخر تشرين الثاني/ نوفمبر 2024 وسيطرت على مدينة حلب بكاملها بسهولة وسرعة مذهلة بعد انهيار وانسحاب قوات النظام.