موريتانيا: حراك اجتماعي.. ونذر ثورة قادمة
١١ مايو ٢٠١١حين ضجت شوارع العالم العربي منذ أشهر معدودات بالشعار الأكثر تداولاً اليوم بين الشعوب العربية والأحب ـ على ما يبدو ـ إلى نفوس المواطنين العرب، وهو: "الشعب يريد إسقاط النظام"، تحطم جدار الخوف والرعب الذي حمت به أجهزة القمع أنظمة دكتاتورية. إذ جثمت على صدور الناس ردحاً من الزمن، قتلت خلاله واعتقلت واختطفت وشردت، كل ذلك ليبقى حكام هذه الأنظمة على كراسيهم للتحكم في مصائر البلاد والعباد.
ولم يكن الشارع الموريتاني بمنأى عن صدى تلك الهتافات الثورية التي دوت في تونس وسرعان ما انتقلت إلى مصر ثم اليمن وليبيا وسوريا، والبقية تأتي.. وإن اختلف السياق وتوحدت الغايات، كما توحدت أنماط الحكم في كثير من جوانبها. فقد أنجبت مواقع التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت طبقة سياسية شبابية جديدة في موريتانيا، على شاكلة موضات مجموعات شباب الفيسبوك في بقية البلدان العربية، التي حركت الثورات وهزت عروشاً، كانت حتى الأمس القريب تتصور قدرتها على البقاء حتى ولو زالت الدنيا عن بكرة أبيها.
هذه المجموعات من الشباب الموريتاني أطلقت دعوات للتظاهر ووسمت نفسها باسم "شباب 25 فبراير" أسوة بالمجموعات الشبابية التي ظهرت بقية البلدان العربية مطلقة على نفسها أسماء تشير على تاريخ انطلاق أنشطتها المعارضة. وبالفعل نجحت تلك المجموعات في استقطاب المئات ولفتت الأنظار، ولو لوقت محدود، عن أساطين السياسية التقليديين الذي تباينت مواقفهم بين مناصر براغماتي لها يحاول أن يمتطي الموجة ليصل إلى مبتغاه، وآخر يتحفظ على تلك التحركات باعتبارها تقليداً صبيانياً لحركات متهورة يسعى القائمون عليها إلى اختطاف أدوار السياسيين وإحالتهم إلى التقاعد قبل الأوان.
وأثارت التحركات الشبابية الموريتانية أسئلة عديدة حول حقيقتها، وفيما إذا جاءت تقليداً لموضة الثورات العربية أم نسمة من رياح التغير التي هبت على العالم العربي؟ وهل تحتاج موريتانيا فعلاً إلى ثورة كشقيقاتها العربيات، أم أنها تختلف عنهم كما يرى حكامها؟
النظام: مطالب الثورة حققنها سلفاً
لكن النظام وأنصاره لا يرون مبرراً لمثل تلك التحركات والتظاهرات في موريتانيا، وأن المطالب التي خرج الشارع العربي من أجلها توفرت في موريتانيا، التي اختار شعبها -حسب قولهم- قيادته في انتخابات ديمقراطية، وخلت سجونها من معتقلي الرأي، وبدأت حكومتها حرباً لا هوادة فيها على الفساد. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تعداه إلى أن يقول أحد وزراء الحكومة الحالية إن الثورات العربية الحالية استلهمت فلسفتها ومطالبها من الانقلاب الذي قاده الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز سنة 2008، والذي وصفه بالحركة التصحيحية التاريخية.
وفي هذا السياق حذر الأمين العام لاتحاد العمال الموريتانيين المقرب من الحزب الحاكم، من مغبة "الانزلاق وراء الدعوات للثورة وإشاعة البلبلة والفوضى". كما أكد رئيس الفريق البرلماني للحزب الحاكم النائب "سيدي أحمد" أن الشعوب العربية كانت محقة في ثورتها على الأنظمة، بخلاف ما يحصل في موريتانيا، مضيفاً أن النظام الموريتاني كان سباقاً إلى الثورة على أنظمة الفساد، ومضى يقول "إن الظروف التي يمر بها البلد تدعونا إلى التلاحم، والابتعاد عن الأصوات الشاذة التي تحاول إسقاط واقع بعض الدول العربية علي الواقع الموريتاني، الذي تتباين معه جملة وتفصيلاً".
المعارضة: كل أسباب الثورة قائمة في البلد
من جانبهم يرى معارضو النظام أن مبررات الثورة لإسقاطه تتضافر اليوم بشكل لم يكن متوفراً من قبل. وفي هذا الإطار يقول النائب المعارض محمد المصطفى ولد بد الدين: "نحن أمام نظام مسؤول عن سرقة واغتصاب أول تجربة ديمقراطية حقيقية تعرفها موريتانيا، فهو الذي أطاح سنة 2008 بأول رئيس مدني منتخب للبلاد سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله في انقلاب عسكري لمجرد أن الرئيس مارس حقه الدستوري في إقالة ضباط وتعيين آخرين بدلاً منهم". ويصف ولد بدر الدين الانتخابات التي فاز بها ولد عبد العزيز سنة 2009 بأنها كانت مزورة، استخدمت فيها الدولة نفوذها للضغط على الناخبين وسلب إرادتهم، من أجل تكريس الأمر الواقع حينها وهو سيطرة ولد عبد العزيز على السلطة بواسطة القوة. ويضيف ولد بدر الدين بالقول: "كما رفض النظام بعد الانتخاب الدخول في حوار مع المعارضة وفقاً لاتفاقية دكار التي أنهت أزمة ما بعد انقلاب 2008".
أما حزب "تكتل القوى الديمقراطية" المعارض فقد اعتبر أن البلاد تعيش ظروفاً بالغة السوء وتتجه نحو المجهول، بفعل سياسات النظام الحاكم. وفي حوار مع دويتشه فيله قال زعيمه أحمد ولد داداه إن "وضع البلاد السيئ يبدأ بما أسماه الأزمة الأخلاقية للنظام، ولا ينتهي بسوء التسيير والمحسوبية والفشل الأمني والعسكري"، واصفاً نظام ولد عبد العزيز بأنه أسوء نظام عرفته البلاد فساداً ومحسوبية، وأن شعار محاربة الفساد الذي رفعه ولد عبد العزيز بعد وصوله إلى الحكم إنما اتخذه ذريعة لتصفية الحسابات السياسية والشخصية.
ارتباك في موقف السلطات
تعاطي السلطات الموريتانية مع تلك المظاهرات تميز بقدر من الارتباك، تراوح بين الترخيص لها أحياناً، وقمعها بعنف أحياناً أخرى، قبل أن يتفق الطرفان -عن غير قصد- على نقطة تصادم أصر كل منهما عليها. ويتعلق الأمر بالتظاهر في الساحة الكبرى وسط العاصمة المعروفة باسم "ساحة بلوكات"، حيث تقول السلطات إن الساحة تم بيعها لمستثمرين خصوصيين ولم تعد مكاناً مناسباً للتظاهر، وأصرت على منع المجموعات الشبابية من الوصول إليها، مع السماح لهم بالتظاهر في أماكن الأخرى. أما قادة المتظاهرين فيرون في بيع الساحة للخصوصيين الدليل الأكبر على سوء التسيير والفساد في البلد، ويتمسكون بالتظاهر فيها كنوع من الرمزية والتعبير عن رفضهم للنظام.
وقد أدى إصرار الطرفين على موقفهما إلى صدامات عنيفة، قادت إلى قمع الشرطة بعنف للمتظاهرين واعتقال العشرات منهم أثناء محاولاتهم، قبل أن يتم الإفراج عنهم لاحقاً، وكانت مظاهرات الأسبوع الماضي الأقوى والأكثر عنفاً بين المتظاهرين والشرطة.
لكن أجهزة النظام سرعان ما نجحت في اختراق قيادات المجموعات الشبابية، ونجحت في زرع الخلاف بينهم، حيث اتهم بعضهم البعض الآخر بالعمل لصالح أحزاب سياسية معينة، وانقسموا على مجموعتين إحداهما تعرف باسم مجموعة "شباب أحزاب المعارضة"، فيما تعرف الثانية بمجموعة "شباب الفيسبوك" وقد تبادل الطرفان الاتهامات حول المساعي لإجهاض الاحتجاجات.
حراك اجتماعي غير مسبوق
غير أن حركة احتجاجات أخرى رافقت تحركات المجموعات الشبابية، كانت هي الأخرى مثيرة للاهتمام، ويتعلق الأمر بحراك احتجاجي اجتماعي غير مسبوق في تاريخ البلاد، حيث يتظاهر يومياً المئات من حملة الشهادات العاطلين عن العمل، وسكان "أحياء الانتظار" المطالبين بتوفير قطع أرضية، ومجموعات من العمال غير الدائمين في مؤسسات الدولة يطالبون بحقوقهم، وأساتذة وأطباء أضربوا عن العمل مطالبين بزيادة مستحقاتهم، وعسكريون متقاعدون يريدون حقوقهم، وناشطون حقوقيون يضربون عن الطعام مطالبين بتفعيل القوانين المجرمة للعبودية واستغلال القصر.
إلا أن هذه المجموعات ما تزال مشتتة وتحتج كل منها على حدة، لكنها تتوجه يومياً إلى الساحة الواقعة قبالة القصر الرئاسي، لإسماع صوتها إلى السلطات العليا في البلد، ويرى المراقبون أنها حركة الاحتجاجات الاجتماعية التي تتكاثر يومياً، إذا ما توحدت قد تشكل تهديداً حقيقياً للاستقرار الاجتماعي والسياسي في البلد، ووقوداً لثورة يتلمس بعض السياسيين ملامحها قريباً أملاً أن تغير من الواقع السياسي في البلد.
محمد محمود أبو المعالي- نواكشوط
مراجعة: عماد غانم