موقف برلين نحو أوكرانيا.. حيرة الحلفاء وخيبة أمل الأصدقاء
٤ فبراير ٢٠٢٢
كان كاي آخيم شونباخ أعلى ضابط في البحرية الألمانية، إلى أن تحدث عن رأيه الشخصي في الصراع الروسي الأوكراني علناً لمؤسسة بحثية هندية، مرتدياً الزي العسكري: فقد تحدث شونباخ عما يريده الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، من احترام ومعاملة على قدم المساواة "والتي يستحقها"، بالإضافة إلى أن شبه جزيرة القرم، التي ضمتها روسيا إليها عام 2014، خسرتها أوكرانيا للأبد، ووصفه المخاوف من غزو روسي لأوكرانيا بأنها "هراء".
هذه التصريحات أثارت موجة من السخط، لاسيما في أوكرانيا، التي استدعت السفيرة الألمانية في كييف. وبعد 24 ساعة فقط من تصريحاته،أقيل النائب أدميرال شونباخ من منصبه كمفتش (قائد) للبحرية الألمانية. لكن شكوكاً تبقت لدى كثير من الحلفاء: هل كانت تصريحات شونباخ تعبر عن رأي شخصي فقط، أم أنها تعبر عما يفكر فيه عدد كبير من النخب السياسية والعسكرية في ألمانيا؟
انتقاد وسخط على ألمانيا
وبالرغم من أن كريستوف هويسغن، مستشار الأمن القومي للمستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل، أكد في حديث مع DW أن الإقالة السريعة لقائد سلاح البحرية دليل على الاتفاق العام في صفوف الحكومة الحالية، إلا أن ذلك كشف عن تشققات في صورة ألمانيا عند الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا الشرقية. لذلك، انهالت الانتقادات على برلين، جزء منها كان ممزوجاً بشيء من الإهانة.
وما زاد الطين بلة أن ألمانيا، بعد أن رضخت لضغوطات من كييف وحلفاء آخرين، وافقت على إرسال 5000 خوذة عسكرية فقط. كما توضح خرائط الطيران أن طائرات نقل السلاح البريطانية إلى أوكرانيا اضطرت لعمل التفاف كبير وواضح حول المجال الجوي الألماني.
في أول أزمة سياسة خارجية كبيرة لها، تواجه حكومة "ائتلاف إشارة المرور" الفتية كارثة علاقات عامة. حول ذلك، يقول بيوتر بوراس، مدير مكتب المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في وارسو، إن هنالك "حيرة" بخصوص آليات التواصل في برلين، مضيفاً: "الحكومة الاتحادية لم تتحدث منذ وقت طويل بصوت واحد. لقد سمعنا آراء كثيرة، ولكننا لم نجد خطاً واضحاً واحداً".
بسبب ذلك، تساءلت معظم الصحف، من "نيويورك تايمز" الأمريكية إلى "ديكان هيرالد" الصادرة في جنوب بنغلادش، حول الموقف الألماني من الصراع في أوكرانيا.
لا سلاح لأوكرانيا .. لكن غاز من روسيا؟
رفض ألمانيا إرسال أسلحة إلى أوكرانيا يناقض مواقف حلفاء آخرين، مثل إسبانيا التي أرسلت فرقاطة إلى البحر الأسود، أو الدنمارك، التي نقلت طائرات مقاتلة إلى ليتوانيا وحرّكت فرقاطة إلى شرق بحر البلطيق، أو الولايات المتحدة، التي أعلنت عن جاهزيتها لنقل جنود. ما انعكس سلباً أيضاً على صورة ألمانيا هو منعها إستونيا من تسليم خمس قطع مدفعية قديمة من طراز "هاويتزر" من بقايا معدات ألمانيا الشرقية إلى أوكرانيا. سبب هذا المنع، بحسب برلين، هو التحفظ التقليدي على تصدير أسلحة ومعدات عسكرية إلى مناطق الصراع.
سبب آخر يوضحه نائب رئيس الكتلة البرلمانية للحزب الديمقراطي الحر، ألكساندر غراف لامسدورف، في حوار مع DW: "القوات المسلحة الأوكرانية أضعف بمراحل من نظيرتها الروسية، وتزويدها بالسلاح لن تعادل ميزان القوة بين الطرفين على الإطلاق".
كما تشكل المصالح الألمانية الاقتصادية مع روسيا نقطة انتقاد للحكومة في برلين، وتحديداً اعتمادها على صادرات الطاقة الروسية، إذ تستورد ألمانيا نحو 40 في المائة من إجمالي واردات النفط الخام، و56 في المائة من إجمالي واردات الغاز، من روسيا. هذه النسب قد تزداد بسبب خط "نورد ستريم 2" المثير للجدل، والذي انتهى العمل به الصيف الماضي ولكنه لم يدخل نطاق الخدمة بعد.
لطالما تسبب هذا المشروع بعاصفة من الغضب في الولايات المتحدة. ولكن مع تصاعد حدة النزاع على الحدود الأوكرانية الروسية، بات خط الأنابيب الروسي الألماني ضيفاً مستمراً على البرامج الحوارية التلفزيونية الأمريكية، لدرجة أن السفيرة الأمريكية في واشنطن، إميلي هابر، أكدت في تغريدة على حسابها في "تويتر" أن خط "نورد ستريم 2" سيكون تحت تصرف الحلفاء عند وقوع صراع عسكري.
على الرغم من ذلك، نشر وزير الخارجية التشيكي السابق، كارل فورست فون شفارتسنبيرغ، والرئيس السابق للجنة العلاقات الخارجية في البرلمان الأوروبي، إلمار بروك، مطلع الأسبوع الحالي رسالة مفتوحة، ذكرا فيها أن "هنالك انطباع بأن ألمانيا لا تشارك بشكل فعال في تطوير سياسة غربية واضحة، بل تفكر بمصالحها الاقتصادية (نورد ستريم 2، العقوبات) أكثر".
صراع في الحكومة لتوحيد المواقف
بات بالإمكان رؤية عدد من خطوط الصدع في السياسة الألمانية: الأول بين شركاء التحالف الحاكم في الحكومة الجديدة، فحزبا الخضر والديمقراطيون الأحرار يمثلان سياسة ألمانية أكثر صرامة تجاه روسيا، بينما يشدد الحزب الاشتراكي الديمقراطي على ضرورة استكمال "التهدئة" و"الحوار" في العلاقات مع موسكو.
لكن حتى في داخل حزب المستشار الألماني نفسه، هنالك مجموعة من الأصوات المختلفة، لدرجة أن الحزب الاشتراكي الديمقراطي عقد يوم أمس الاثنين (الأول من فبراير/شباط 2022) لقاءً جمع ممثليه من الحزب والكتلة البرلمانية والحكومة، من أجل الخروج بموقف موحد. والنتيجة كانت أنه في حالة غزو روسي، ستكون كافة خيارات العقوبات مطروحة على الطاولة. كما يجب استخدام كافة القنوات الدبلوماسية من أجل التهدئة، خاصة في إطار ما يُعرف بـ"صيغة النورماندي "، بالشراكة مع فرنسا. كما تم الاتفاق على التمسك بعدم تصدير أسلحة إلى أوكرانيا، أيضاً من أجل عدم التأثير على دور الوساطة الألماني.
وفيما يتعلق بتسليح أوكرانيا، فإن الحكومة الألمانية على تناغم مع موقف غالبية المواطنين، إذ كشف استطلاع للرأي أجراه مؤخراً معهد "يو غوف" لقياس الرأي العام أن 59 في المائة من المستطلعة آراؤهم يدعمون موقف حكومة بلادهم من عدم تسليم أسلحة إلى أوكرانيا. شخص واحد من بين خمسة مستطلعة آراؤهم كان مؤيداً لتسليح أوكرانيا. وألمانيا ما تزال أكبر الدول المانحة لأوكرانيا في مجال المساعدات الاقتصادية والإنسانية.
خط ميركل المباشر مفقود
نقطة انتقاد أخرى تتعرض لها الحكومة هي أن رحيل أنغيلا ميركل من منصبها ترك فجوة في السياسة الأوروبية عموماً تجاه روسيا، وهي فجوة لا يبدو أن المستشار الحالي، أولاف شولتس، قادر على ملئها. لذلك، اشتكت صحيفة الإيكونومست البريطانية من أن قناة التواصل المباشر بين موسكو وبرلين، والتي استخدمت في السابق بكثافة، ما تزال منهارة منذ استلام الحكومة الجديدة مهامها في مطلع ديسمبر/ كانون الأول.
عمق فجوة الاتصال الألماني الروسي هذه يؤكدها هورست تلتشيك، الذي كان أحد المقربين من المستشار الألماني السابق هيلموت كول، ومسؤولاً في مكتب المستشارية، وكان شاهداً على الكثير من المحادثات إبان إعادة توحيد شطري ألمانيا، ورئيساً لمؤتمر ميونيخ الدولي للأمن سنوات طويلة.
ويقول تلتشيك لـDW: "الميزة التي تمتعت بها المستشارة السابقة ميركل هي أنها كانت تستطيع الاتصال ببوتين في أي وقت والدفع باتجاه محادثات"، وهذا ما فعلته المستشارة مراراً في آخر شهور لها في المستشارية، بحسب ما كتبت صحيفة الإيكونومست. أما شولتس، فلم يتحدث هاتفياً مع الكرملين إلا مرة واحدة في نهاية ديسمبر/ كانون الأول، رغم الوضع الحساس للغاية.
ماتياس فون هاين/ ي.أ