1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

نحو إستراتيجية للتربية والتعليم

٢٤ فبراير ٢٠١٢

يبدي د. محمد الربيعي ملاحظات على وثيقة "الإستراتيجية الوطنية للتربية والتعليم العالي في العراق" معتبرا إياها خطوة في طريق بناء التربية والتعليم لكن مسار تحقيق هذا الإصلاح تشوبه الضبابية.

صورة من: AP

منذ فترة طويلة ونحن ننتظر بفارغ الصبر صدور مسودة وثيقة "الإستراتيجية الوطنية للتربية والتعليم العالي في العراق" وهي الوثيقة التي أعلن نائب رئيس الوزراء، صالح المطلك، في تشرين الأول الماضي عن الانتهاء من إعدادها ووصفها بأنها ستكون الإطار الوطني الأعلى والأسمى لعمل الوزارات القطاعية في مجال التربية والتعليم العالي. ووعدنا مستشار وزارة التعليم العالي الدكتور صلاح النعيمي في بداية هذا الشهر بنشر الوثيقة في خلال أسبوعين.

و لأني كنت قد اطلعت على مسودة الإستراتيجية سابقا فقد ارتأيت عدم انتظار إعلانها والبدء بالتعليق على جوانب مهمة منها وبصورة تدريجية. وقبل ان ادخل في هذه المواضيع أحب أن أؤكد اتفاقي التام مع الدكتور النعيمي من حيث اعتبار هذه الإستراتيجية خطوة في طريق بناء التربية والتعليم العالي باتجاه العمل المؤسساتي وللارتقاء نحو الرصانة بما يتناسب مع التوجهات العالمية المعاصرة.

نجاح في تشخيص مكامن الخلل

بدت الإستراتيجية لي من الصفحات الأولى جادة وواضحة في تحديد مكامن الخلل في النظام التربوي العراقي، فأسهبت في سرد نقاط الضعف في المنظومة التشريعية، والإدارية، والبنية التحتية، والفرص المتاحة، والجودة، والتمويل، والبحث العلمي. وشخّصت واقع التربية والتعليم العالي في العراق بصورة علمية وفنية عالية، وبعيدة عن التوجهات السياسية قصيرة النظر والمواقف الفئوية الضيقة، ورسمت سياسة تتصدى للتخلف من خلال خلق بيئة صحية تتناسب مع التقدم العلمي والتربوي والتكنولوجي في العالم، فوضعت أهدافا طموحة وخيارات إستراتيجية لرفع الواقع التربوي والعلمي في العراق، واقترحت الخطوات العملية المطلوب اتخاذها لتنفيذ هذه الخيارات.

من مكامن الخلل في النظام التربوي العراقي، شخصتْ الوثيقة بصواب التحدي الذي يواجه عمل وزارتَي التربية والتعليم العالي، والذي يكمن في المشاكل الإدارية التي يعاني منها الهيكل التنظيمي للوزارتين، والمتمثل بإتباع التنظيم العمودي والمركزي، والمتسبب بانعدام مرونة القوانين، وعدم مواكبتها للتغيرات السريعة في القطاعات التعليمية الدولية مما يشكل عائقا أمام عمل الجامعات واستقلاليتها. وتؤكد الوثيقة على وجود تداخل وتضارب وعدم وضوح كبير في الصلاحيات الخاصة بكل مستوى من المستويات الإدارية. ولحل هذا المشكل توصي الإستراتيجية بتشريع قانون جديد يضمن القضاء على التداخل، وزيادة مستوى اللامركزية، ودعم استقلالية الجامعات والمديريات العامة للتربية.

غياب مفهوم استقلالية الجامعات

لم تتطرق الوثيقة إلى مفهوم استقلالية الجامعات، وبدا واضحا عدم رغبة الخبراء في وضع توجهات إستراتيجية واضحة في هذا المجال وترك الموضوع مبهما بحيث التبس الأمر بين الاستقلالية واللامركزية. كان بالأحرى تقديم أهداف واضحة عن هيكلية التعليم العالي ومؤسساته بالاعتماد على رؤية جديدة لمستقبل التعليم العالي، وعلاقة الجامعات بالوزارة لغرض ترشيد المؤسسات القائمة، واستحداث مؤسسات جديدة انطلاقا من الأسس العامة لأسلوب الحكم الذاتي المتمثل في استقلالية المؤسسات التعليمية، واعتبار كل جامعة حرم ذو حصانة تتمتع بشخصية اعتبارية.

ولابد لي، ونحن في هذا السياق من اقتراح أسلوب عملي على أساسه يتم الفصل بين مركزية التخطيط والإشراف من قبل الوزارة، واستقلالية الشؤون الإدارية والأكاديمية للجامعات، بحيث يحكم الوزارة وزيرها وجهازها الإداري بالإضافة إلى مجلس وزارة يضم ممثلين عن جميع أصحاب المصالح المتعلقة والفئات صاحبة المصلحة من رؤساء الجامعات والأساتذة والطلبة والخريجون والوزارات القطاعية خصوصا وزارة التربية ووزارة العلوم والتكنولوجيا والقطاع الخاص وعلماء وخبراء تربويين من داخل وخارج العراق. وبحسب هذا الاقتراح تتضمن مسؤوليات الوزارة التخطيط ، ووضع الإطار العام للسياسات لتطوير التعليم الجامعي وإعداد الدراسات التربوية، ومشاريع القوانين والترخيص والمراقبة والإشراف ومعادلة وتصديق الشهادات والتمويل وإرسال البعثات الدراسية إلى خارج العراق والإشراف على المكاتب الثقافية في الخارج، بينما تحكم الجامعات نفسها بنفسها وذلك بتشكيل مجلس أمناء لكل جامعة لغرض الإشراف على إدارة أعمالها، وان تدار الشؤون الإدارية والأكاديمية والمالية من قبل مجلس أداري/أكاديمي حسب نظام داخلي خاص بالجامعة.

ولان الجامعة بهذا المفهوم تعتبر مؤسسة تتمتع بشخصية اعتبارية فلها الحق في تغيير هيكليتها وبما يتناسب ونظامها الإداري والأكاديمي، فعلى سبيل المثال، يتم اعتماد هيكلية المدارس أو الأقسام كوحدات رئيسية للبرامج الأكاديمية بدلا من الكليات لتقليل الازدواجية في الأقسام بالتقنين والاندماج على أساس الجدوى الاقتصادية، كما لها الحق في منح أو إلغاء البرامج والدرجات العلمية بما يتناسب وإمكانياتها الأكاديمية، وتعين أو فصل منتسبيها، وتحديد منهجيات التعليم والتعلم الخاصة بها.

كيف ننتج المعرفة المهنية والعلمية؟

إن إستراتيجية تحقق للعراق موقعا عاليا في المجتمع العلمي والتكنولوجي العالمي لابد لها أن تقدم بديلا للهياكل الأكاديمية الحالية استنادا لحاجة السوق والمجتمع المحلي والعالمي، ومنها التركيز على إنتاج المعرفة العملية والمهنية، وحصر العلوم الاجتماعية والإنسانية بصورة تتناسب مع الحاجة لها، وتجميد البرامج عديمة الجدوى، فليس من المعقول أن تكون في إحدى الجامعات العراقية سبعة أقسام لاختصاص واحد، ولابد أيضا من إعادة النظر في الفصل التقليدي بين الاختصاصات.

الدراسات العليا لم تعد وسيلة من وسائل تطوير البحث العلمي، وإنما وسيلة لمنح الشهادات، وإن كثرتها التي أصبحت بالمئات وفي اختصاصات لا توجد حاجة ماسة إليها أدى إلى تضخم عدد حملة الدكتوراه المحلية في الأقسام الأكاديمية نتيجة عدم وجود مجالات عمل أخرى لهم في مؤسسات الدولة الأخرى، فأصبح البحث العلمي عملية مهنية أكثر من كونها أكاديمية.

تشير الإستراتيجية إلى أن عدد الرسائل والأطروحات من عام 2003 إلى 2008 بلغت ما يقارب 24500 وهذا رقم هائل إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار العدد الضئيل من التدريسيين من حاملي الدكتوراه والمؤهلين للإشراف على طلبة الدراسات العليا، وشحة الأجهزة والمعدات والمصادر المكتبية، بالإضافة إلى عدم حاجة السوق إلى معظم الخريجين من حملة الماجستير والدكتوراه. ومع هذا فان الإستراتيجية تؤكد على ضرورة توسيع فرص القبول في برنامج الدراسات العليا المختلفة من دون ربط هذا التوسع بحاجة السوق، أو بالاختصاصات العملية، أو بتوفر الأساتذة المؤهلين للإشراف. إني اعتبر ذلك نتيجة طبيعية لما يواجه التعليم العالي من الطلب الواسع على الدراسات العليا خصوصا من قطاعات اجتماعية تعتبر الشهادة العليا ولقب دكتور بالخصوص ميزة اجتماعية عليا قبل ان تكون ميزة سوقية مما يجعل التركيز بالدرجة الأولى على التوسع الكمي خصوصا في الدراسات النظرية. لذا كان من الأفضل قبل تحديد عدد الجامعات والطلاب معرفة درجة الهدر في التعليم الجامعي، وتشخيص أسبابه، وبالتالي وضع أهداف لدرئه وإنقاص معدلاته.

جامعات تنجب جامعات ولا احد ينتج المعرفة

وبرغم من أن أهداف الإستراتيجية هو بناء عدد هائل من رياض الأطفال والمدارس الابتدائية والثانوية والمهنية، وهذه أهداف سامية ضمن نوايا رائعة وجميلة، إلا إنها تتضمن أيضا استحداث 21 جامعة حكومية جديدة. وهنا أيضا تم اقتراح هذا العدد الهائل من دون أن يأخذ بنظر الاعتبار نوعية الاختصاصات وحاجة سوق العمل وتوفر الأساتذة المتخصصين وما يؤدي إليه التوسع الكمي من إهمال للجوانب النوعية للنظام التعليمي وانخفاض مستوى الطلاب والخريجين. ان هذه الأهداف تضعنا أمام تساؤل عن دور الجامعة التقليدي ودورها الجديد؟ فالدور التقليدي هو توفير المعرفة التي تؤهل الخريج للحصول على شهادة ووظيفة، ومن دون الاستهانة بهذا الدور، إلا أن الدور الإستراتيجي الجديد هو إنتاج المعرفة وهذا على ما يبدو ما تريده الإستراتيجية المقترحة للجامعات العراقية بالرغم من ان تحقيق ذلك يحتاج إلى إصلاح مراكز إنتاج المعرفة نفسها واعني بها الجامعات بشكل خاص بما يضمن لها من مواكبة عصر الانفجار المعرفي، وهذا بالضرورة يتطلب تركيز الموارد المالية والبشرية لتحقيق الإصلاح وتوجيه التعليم العالي إلى وظيفة أنتاج المعرفة وإحداث تغيير جذري في القيم والحوافز الاجتماعية وتشجيع نشاطات البحث والتطوير والابتكار والانسياب الحر للمعلومات والأفكار.

"الاتجاه لتحقيق الإصلاح تشوبه الضبابية"

رؤية ورسالة الإستراتيجية في ضرورة إصلاح نظام التربية والتعليم وتطويره بما يجعله منافسا للمجتمع العالمي القائم على اقتصاديات المعرفة هو وصف وصياغة لصورة مستقبلية رائعة، إلا ان الاتجاه حول تحقيق هذا الإصلاح تشوبه الضبابية لأن الأهداف الكبيرة التي وضعتها الإستراتيجية غير قابلة للتحقيق من دون تحسين مستوى المدرسين، وإن الطريق الوحيد لتحقيق نتائج أفضل هو بتحسين الأداء، وهذا يتطلب من المؤسسات التعليمية تعليما وتربية للطلاب أكثر ملائمة لعالم اليوم من حيث تمتع الطلاب بمهارات إبداعية ولغوية وفنية وإنتاجية واحترافية، وبقدرات اتخاذ القرارات، والقدرة على العمل المستقل، وهذه بمجملها لا تقل أهمية عن المعلومات المكتسبة في موضوع دراسي محدد، وكان من المهم أن تضع الإستراتيجية طريقا لتطوير تعليم اللغات وجعل المدرسة وغيرها من المؤسسات التربوية ميادين التجديد، وتبني المستحدثات الحديثة من خلال الانفتاح على الحضارة المعاصرة والاستفادة من تجارب الشعوب.

يتطلب هذا تطوير منهج تدريس اللغات في المرحلتين التعليميتين، الابتدائي والثانوي، والتركيز على المهارات الأساسية التي تمكننا من مواصلة التعليم والتعلم باللغات الأخرى التي تنقل منها العلوم والمعارف والمهارات. ويتم ذلك بالبدء فى تعليم اللغة الإنجليزية، بدءً من الصف الأول الإبتدائى كإيمان بأهمية تعلم اللغات منذ سن مبكرة. أما الجامعة فدورها في تعليم اللغات يتركز في تأهيل مدرسي اللغات والمترجمين ومن يحتاجهم سوق العمل. إني مقتنع بأن تخلفنا العلمي والتكنولوجي يعود بدرجة كبيرة إلى تخلفنا في اللغات العالمية، لأنها الوسيلة الأساسية في اقتباس المعلومات وكسب العلوم ونقل التكنولوجيا، وبها أيضا ننقل علومنا وابتكاراتنا واكتشافاتنا وكل ما يمكن أن نساهم به لتطوير الحضارة الإنسانية إلى العالم.

"العراق لا يحترم كفاءاته المهاجرة"

لا يمكن لأية إستراتيجية للتربية والتعليم العالي أن تهمل العقول البشرية، فالتحدي الراهن والمستقبلي يتطلب الاستفادة من كل القوى البشرية القادرة على تحديث نوعية التعليم، وتحسين جودة المخرجات التي تلبي احتياجات سوق العمل ومتطلبات التنمية. ومع هذا فقد أهملت الإستراتيجية عنصرا مهما لدعم القدرات البشرية في منظومتي التربية والتعليم العالي، ألا وهي الكفاءات والخبرات والعقول البشرية في الخارج. في العالم لا يختلف اثنان حول أهمية الكفاءات المهاجرة في بناء البلد إلا في العراق، فشأن هذا الموضوع شأن المواضيع الساخنة الأخرى التي تعرقل حل المشاكل والقضاء على الأزمات ودفع مسيرة التطور الاقتصادي والاجتماعي إلى الأمام. في العراق فقط ترى حالة عدم احترام القدرات العلمية والكفاءات التي ترغب صادقة في خدمة وطنها، وتسود آراء عدائية نحو كفاءات الخارج منها ما يؤكد على عدم احتياج العراق إلى هذه الكفاءات، وبأنها غريبة عن تربة الوطن ولا تفهم مشاكله، ولا تستطيع أن تقدم حلولا لها.

هل أن من يبرع ويبدع وينتج في الخارج لا يستحق الرعاية والتقدير في الداخل؟ يؤخذ على الإستراتيجية أنها عكست الحالة السائدة والشاذة في العراق فلم تضع أهدافا لتحفيز وجذب العقول العراقية المهاجرة. هل ان سياسات الاستفادة من الكفاءات في الخارج لا تبنى على إستراتيجية؟ لقد سبق وان طرحنا مبدأ "تحفيز الكفاءات على استثمار طاقاتها داخل العراق"، تحقيق هذا المبدأ يتطلب وضع الإجراءات الضرورية، وخلق الآليات العملية، وتخصيص الأموال اللازمة لزيادة ميزانيات البحث والتطوير، وبوضع التعليمات التي تقود إلى تشجيع وتسهيل عودة علماء وكفاءات الخارج، وبزيارة الوطن، والمشاركة في بنائه عن طريق تقديم الخبرة والمشورة. أليس هذا هدف استراتيجي سام جدير بالاعتبار والاهتمام؟

هذا ما أحببت طرحه في هذه المناسبة، وسأعود إلى الموضوع بعد طرح الإستراتيجية للمناقشة العامة لغرض إثراء الحوار حولها، وهدفي هو تطوير الرؤية المستقبلية لقطاع التربية والتعليم وردف عملية التخطيط والتنفيذ.

د. محمد الربيعي

مراجعة ملهم الملائكة

تخطي إلى الجزء التالي موضوع DW الرئيسي

موضوع DW الرئيسي

تخطي إلى الجزء التالي المزيد من الموضوعات من DW

المزيد من الموضوعات من DW