عشرات الآلاف من الأطر والباحثين والمهندسين والأطباء المكونين بجهد وإمكانيات الدولة الجزائرية يغادرون البلاد كل سنة بحثا عن مستقبل أفضل في الخارج، ما يُشكل نزيفا حقيقيا لاقتصاد الجزائر ولمستقبل التنمية فيها.
إعلان
تفاقمت ظاهرة هجرة الأدمغة في الجزائر لتصبح نزيفا يهدد مستقبل التنمية في البلاد الغنية بالغاز والبترول. عشرات الآلاف يغادرون وطنهم كل عام بحثا عن مستقبل مهني أفضل وعيش رغيد في أوروبا وغيرها من البلدان الغربية. عمار أزوك، مهندس جزائري مقيم في ألمانيا منذ 1977 درس واشتغل في عدد من القطاعات في ألمانيا ويعمل حاليا كمدير مشاريع في إحدى بلديات ولاية شمال الراين وويستفاليا. عمار أكد لـ DW أن ظروف مغادرته للجزائر مختلفة عما هو سائد اليوم، فالرغبة في المغامرة وفضول اكتشاف عوالم أخرى هي التي حسمت في قرار هجرته قبل حوالي أربعين عاما.
لم يخف عمار أن حلم العودة إلى الجزائر لم يغادره أبدا، غير أن قرار الاستقرار بألمانيا لم يعد مرتبطا عنده بجودة العيش فقط، أو بالمهنة التي يمارسها، ولكن أيضا بمستقبل الأسرة التي أسسها مع زوجته الألمانية. وبالنسبة لأصدقائه ومعارفه من أصول جزائرية أوضح عمار أن "الكثيرين يتصورون أوروبا كجنة، ولكن حينما يصلون إلى هنا، يغير الكثير منهم رأيه". واستطرد موضحا أن الذين لم ينجحوا في الاندماج، يحلمون بالعودة إلى الجزائر، إلا أنهم يظلون تائهين هنا، لأن العودة تعني إعلان الفشل وبالتالي الانتحار الاجتماعي في البلد الأصل.
جدل قديم جديد
"لماذا يسعى الجميع للمغادرة؟"، سؤال دأبت وسائل الإعلام الجزائرية على طرحه بشكل دوري وبمناسبات مختلفة، من بينها حادث تجمهر وتدافع آلاف الطلاب الجامعيين أمام المركز الثقافي الفرنسي من أجل إجراء اختبار في اللغة الفرنسية والحصول على تأشيرة السفر لفرنسا وذلك في أكتوبر/ تشرين الأول 2017، صور انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي انتشار النار في الهشيم وأحرجت النخب السياسية الحاكمة في البلاد.
حشود غفيرة أمام المركز الثقافي الفرنسي بالجزائر.. لماذا؟
02:03
نفس الجدل تجدد في شهر يوليو/ تموز 2018 حين كشف استطلاع عالمي أجرته الشركة الاستشارية الدولية عن "مجموعة بوسطن للاستشارات" Boston Consulting Group BCG))، والتي أظهرت أن 84 في المائة من الجزائريين مستعدون لمغادرة البلاد للحصول على وظيفة في الخارج. وحينها أثير جدل سياسي وإعلامي كبير، وهو ما تكرر الآن في البرلمان في جلسة للأسئلة الشفوية حيث اتهم الوزير الأول الجزائري أحمد أويحيى الصحافة بتضخيم هذا الموضوع، محاولا التقليل من شأن مسؤولية الحكومة قائلا "هذه ظاهرة معقدة لا تعني الجزائر فقط، بل تواجهها كذلك دول أخرى أكثر نموا من بلادنا “.
ويتزامن هذا النقاش مع استعداد البلاد لانتخابات رئاسية يوحي كل شيء بأن الرئيس عبد لعزيز بوتفليقة (82 عاما) سيتقدم خلالها لعهدة خامسة، وهو مريض مقعد. مشهد يجعل الكثير من الشباب يشعرون بالإحباط لكون البلاد يحكمها جيل شيوخ لا يفهمون بالضرورة مشاكل وطموح الأجيال الجديدة.
فقدان مائة ألف "عقل" منذ 1990
تحت عنوان "هروب العقول متواصل باطراد في الجزائر" كتبت صحيفة "ريفليكسيون" الجزائرية الناطقة بالفرنسية في عددها الصادر اليوم (الخميس السابع من فبراير/ شباط 2019) "الجزائر فقدت ما لا يقل عن مائة ألف شخص من حاملي الشهادات العليا منذ عام 1990، وهو ما يعادل عشر مليارات دولار يتعين استعادتها من البلدان التي تشغل الجالية الجزائرية".
أسباب الرغبة في الهجرة للخارج ترجع لاعتبار فرص التعليم والتطوير المهني وكذألك مستويات الأجور أفضل في أوروبا. بالإضافة أحيانا لدوافع شخصية أخرى كالبحث عن ثقافة أخرى وأسلوب حياة جديدة. ويفضل الجزائريون بلدانا ككندا وفرنسا وألمانيا، وبلدانا أوروبية أخرى إضافة إلى دول الخليج العربية. وفي فرنسا وحدها يعمل ما لا يقل عن خمسة آلاف طبيب جزائري.
الهجرة غير الشرعية.. مواقف وأوضاع شركاء أوروبا بشمال أفريقيا
تكثف دول الاتحاد الأوروبي مؤخراً مساعيها من أجل كبح جماح الهجرة غير الشرعية نحو أراضيها، وذلك من خلال عقد شراكات وثيقة مع دول شمال أفريقيا، لكن كيف هي أوضاع ومواقف هذه الدول من أزمة اللاجئين والهجرة غير الشرعية؟
صورة من: Abdelhak Senna/AFP/GettyImages
مصر: بلد عبور يثير القلق
في السنوات الأخيرة تحولت مصر إلى أحد بلدان العبور إلى أوروبا المثيرة للقلق. ولا توجد أرقام دقيقة من جانب السلطات المصرية عن أعداد اللاجئين والمهاجرين السريين، الذين انطلقوا من السواحل المصرية على متن قوارب الصيد. لكن بحسب الوكالة الأوروبية لمراقبة الحدود "فرونتكس"، فقد انطلقت عام 2016 نحو ألف سفينة تهريب بشر من مصر. كما شكلت مصر كابوساً للهجرة غير الشرعية إلى أوروبا عام 2016.
صورة من: picture-alliance/dpa
مصر: موقف متحفظ
أثار قرار إقامة مراكز لجوء أوروبية في دول شمال افريقيا، بينها مصر انتقادات المنظمات الحقوقية التي تعنى بشؤون اللاجئين، و تتهم هذه المنظمات نظام عبد الفتاح السيسي بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وأبدت مصر عن موقف متحفظ إزاء إقامة أوروبا مراكز لاستقبال اللاجئين على أراضيها. في المقابل يُشاع أن مصر تسعى للدخول في مساومة مع أوروبا لمنع تدفق المهاجرين إلى أوروبا مقابل مساعدات مالية.
صورة من: DW/M. Hashem
ليبيا: هاجس بدون حل
تعد ليبيا واحدة من أهم دول عبور المهاجرين واللاجئين السريين نحو أوروبا. ظلت موجة الهجرة المتدفقة من هذا البلد تمثل هاجساً للزعماء الأوروبيون، الذي لم ينجحوا لحد الآن في إيجاد حل له. في عام 2008 اُبرم اتفاق أوروبي ليبي لمكافحة الهجرة مقابل 500 مليون دولار. وكان الزعيم الليبي معمر القذافي قد تنبأ بتدفق ملايين المهاجرين لأوروبا وطالب آنذاك بروكسل بدفع خمسة مليارات يورو سنويا لليبيا.
صورة من: picture-alliance/dpa/AP/Küstenwache Lybien
ليبيا: موقف رافض
في عام 2017 وصل حوالي 150 ألف مهاجر إلى أوروبا عبر المتوسط. و من أجل كبح جماح هذا التدفق اتفق زعماء الاتحاد الأوروبي على خطة جديدة وكان أهم مقترحاتها إقامة مراكز خارجية لاستيعاب المهاجرين في دول شمال أفريقيا. وقوبل هذا المقترح الأوروبي بالرفض من أغلب دول شمال أفريقيا، بينها ليبيا، التي أعلنت رفضها لأي إجراء يتعلق بإعادة المهاجرين السريين إليها.
صورة من: AP
تونس: ارتفاع عدد الرحلات غير الشرعية
بالرغم من تشديد الحكومة اليمينية الشعبوية في إيطاليا ودول الاتحاد الأوروبي من استقبال قوارب المهاجرين ومراكب المنظمات الناشطة لإنقاذ المهاجرين في البحر، إلا أن الفترة الأخيرة شهدت موجة رحلات هجرة غير شرعية انطلقت من السواحل التونسية باتجاه ايطاليا. فبحسب أرقام للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين ومنظمة الهجرة الدولية، فإن 3811 مهاجرا تونسيا سري وصلوا السواحل الإيطالية هذا العام حتى نهاية آب/أغسطس.
صورة من: DW
تونس: رفض معسكرات المهاجرين
لا يختلف موقف تونس عن موقف دول شمال أفريقيا الرافضة لقرار تقديم الاتحاد الأوروبي المزيد من الدعم المالي لدول شمال أفريقيا مقابل المساعدة في التصدي للهجرة غير الشرعية من خلال إقامة معسكرات للمهاجرين.
صورة من: dapd
الجزائر: أكبر دول المنطقة
الجزائر هي أكبر دول منطقة شمال افريقيا، التي يعبرها المهاجرون باتجاه البحر المتوسط نحو أوروبا. ولا توجد إحصاءات رسمية جزائرية بشأن عدد المهاجرين الجزائريين غير الشرعيين، غير أن تقريرا نشرته في عام 2015 منظمة "ألجيريا ووتش" (غير حكومية)، استنادا إلى الوكالة الأوروبية لمراقبة الحدود "فرونتكس"، وضع الجزائر في المرتبة التاسعة بين الدول المصدرة للهجرة غير الشرعية عبر الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي .
صورة من: picture-alliance/dpa/F. Batiche
الجزائر ترفض مراكز الاستقبال
تتعاون الجزائر مع الاتحاد الأوروبي في ملف الهجرة غير الشرعية، وذلك عن طريق إعادة المهاجرين السريين القادمين من دول جنوب الصحراء إلى وطنهم، إذ رحلت خلال الأربع والخمس سنوات الماضية حوالي 33 ألف مهاجر و لاجئ أفريقي إلى بلدانهم بجنوب الصحراء. كما ترفض الجزائر من جانبها بناء مراكز لإيواء المهاجرين الأفارقة على أراضيها.
صورة من: picture-alliance/dpa/M. Kappeler
المغرب: عودة الهجرة بقوة
عرفت السواحل الإسبانية هذا العام تدفقاً لما يعرف بـ "قوارب الموت" التي تنطلق من الطريق البحرية بين إسبانيا والمغرب والجزائر. فمن أصل 74.501 مهاجرسري وصلوا أوروبا بحراً، استقبلت إسبانيا لوحدها حوالي 43 بالمئة منهم (32.272)، وذلك في الفترة بين الأول من كانون الثاني/ يناير و12 أيلول/سبتمبر 2018، ممّا يجعلها الوجهة الأولى للهجرة السرية عبر البحر الأبيض المتوسط.
صورة من: picture alliance/AP Photo
المغرب: حسابات سياسية ومالية
منذ سنوات يحاول الاتحاد الأوروبي إبرام اتفاق مع المغرب بخصوص عودة المهاجرين من دول افريقيا جنوب الصحراء. ولكن المغرب يرفض ذلك لأسباب سياسية ومالية، أهمها أن ذلك يتعارض مع مسعى المغرب لتقوية علاقاته مع الدول الأفريقية جنوب الصحراء، والاستفادة منها اقتصادياً من خلال شراكات تجارية، وأيضاً لدعم موقف المغرب في النزاع حول الصحراء الغربية.
صورة من: Abdelhak Senna/AFP/GettyImages
10 صورة1 | 10
ظاهرة هجرة العقول لا تقتصر على الجزائر وحدها، فالمغرب البلد المجاور يعاني من نفس المشكل. في حوار مع DW، أكدت الدكتورة فاطمة آيت بن المدني، الباحثة في سوسيولوجيا الهجرة من معهد لدراسات الإفريقية بالرباط أنه "في السنوات الثلاثة الأخيرة وحدها، هاجر كل خريجي المدرسة المحمدية للمهندسين (مدرسة عليا) إلى الخارج، وهو ما مجموعه 750 مهندسا، أي بمعدل 250 كل عام".
واستطردت آيت بن المدني موضحة أن تكاليف تكوين المهندسين هي الأعلى في النظام التعليمي المغربي، ما يعتبر نزيفا حقيقيا تتعرض له البلاد. ولفتت الخبيرة المغربية في حوار مع DW أن "هناك تحولا مثيرا خلال السنوات الأخيرة، فهجرة العقول لم تعد تقتصر على الطلاب حاملي الشهادات الجدد، ولكنها باتت تشمل أيضا الكوادر العليا المستقرة في البلاد، والذين يبحثون عن جودة معيشة أفضل في أوروبا، وبالأخص فرص تعليم أفضل لأبنائهم".