هجمات باريس.. ظلال الماضي وإرث فرنسا الاستعماري
٢٥ يناير ٢٠١٥عندما بدأ يظهر عدد ضحايا هجوم باريس وهويَّتهم، شعر مذيعو قناة الإذاعة الفرنسية "فرانس إنفو" على نحو بديهي بأنَّه يجب عليهم أن يُصنِّفوا هذا الحدث تصنيفًا تاريخيًا. وهنا بدأت الصعوبات، إذ قال أحد الصحفيين إنَّ "هذا الهجوم هو الأكثر دموية في تاريخ فرنسا". "الهجوم الأكثر دموية في العقود الأخيرة"، مثلما صاغت ذلك زميلته بحذر. "الهجوم الأكثر قتلاً منذ أكثر من خمسين عامًا"، مثلما حدَّد ذلك زميل ثالث. ولكن ما هو التاريخ الذي يقصده؟
إنَّ ما حدث في السابع عشر من شهر تشرين الأوَّل/ أكتوبر 1961 في باريس لم يكن هجومًا بالمعنى الحقيقي. لقد كان أقرب إلى مطاردة أسفرت في نهايتها عن وجود أكثر من مائة جثة طافية في نهر السين. وكان الجاني سلطة الدولة مدعمومة من مواطنين فرنسيين وناشطين من طيف سياسي معيَّن. لم تجد هذه المجزرة في وسائل الإعلام أي ذكر على الإطلاق. بل لقد تم ببساطة التكتُّم عليها.
لقد كان الضحايا جزائريين تم اتِّهامهم من قبل قتلتهم بأنَّهم من أتباع "جبهة التحرير الوطني" الجزائرية. وهذه الجبهة هي الحركة التي كانت تسعى إلى إنهاء الحكم الاستعماري الفرنسي الذي دام أكثر من ثلاثة عشر عقدًا في هذه المنطقة الشاسعة الواقعة في شمال أفريقيا.
"الجزائر الفرنسية" كمفهوم بديهي وطني
وهذا التطوُّر التاريخي تعارض في تلك الأيَّام مع التوافق الفرنسي. وقد كان يبدو حينها أنَّه من غير الممكن تصوُّر إمكانية انفصال الجزائر عن فرنسا - بعد أن تم ضم الجزائر على شكل ثلاث محافظات إلى الجمهورية الفرنسية غير القابلة للتقسيم.
وكانت وحدة الأمة الفرنسية تمتد في هذه "المسألة المصيرية" من المحافظين وحتى الشيوعيين الفرنسيين. وقد حاول مئات الآلاف من الجنود الفرنسيين القضاء على الانتفاضة في شمال أفريقيا. ولم يكن هناك مسؤول آخر غير فرانسوا ميتران - الذي كان يوافق حينها بصفته وزيرًا للعدل على عشرات الاعدامات والتعذيب الممنهج ضدَّ ناشطي جبهة التحرير الوطني الجزائرية.
ولم يكن يتم التشكيك في الإجماع الفرنسي الوطني على مفهوم "الجزائر الفرنسية" وانتقاده إلاَّ من قبل عدد قليل للغاية من المواطنين الفرنسيين. على سبيل المثال من قبل مثقَّفين مثل الفيلسوف والروائي جان بول سارتر، الذي كان يكتب في المقام الأوَّل لصالح مجلة "الأزمنة الحديثة" Les Temps Modernes. وكان رد فعل سلطة الدولة بين الحين والآخر فرض الرقابة على هذه المجلة ومصادرتها.
إنَّ مَنْ يُسَلِّم اليوم وبكلِّ ثقة بالنفس بأنَّ حرِّية التعبير عن الرأي وحرِّية الصحافة تشكِّل منذ زمن غير بعيد "نظام قيمنا"، فسوف يتم حتمًا اتِّهامه ببعض السطحية، وذلك بسبب تلك الأحداث التي شهدها تاريخ فرنسا الحديث.
الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر الأوروبي؟
بعد جرائم القتل الأخيرة التي اقترفها الأخوان كواشي وشركاؤهما، بات العالم برمَّته يتساءل حول دور الإسلام. وصار الجميع يتقاربون حول الإجماع على أنَّ الإسلام لم يتأثَّر بالتنوير قطّ وأنَّ هذا الدين يُنجب لذلك وبشكل منتظم قتلة همجيين - منتقمين متعطشين لسفك الدماء قادمين من مرحلة تطوُّر تعود إلى ما قبل التحضُّر.
ولذلك فإنَّ -بحسب هذا الإجماع- يوم السابع من شهر كانون الثاني/ يناير 2015 ليس سوى الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر الأوروبي. ومن ثم نتجت عن ذلك بسرعة استنتاجات تقضي بضرورة تشديد قوانين مكافحة الإرهاب الإسلاموي. وحتى أنَّ رئيسة حزب الجبهة الوطنية مارين لوبان قد دعت إلى إعادة العمل بعقوبة الإعدام فوق التراب الفرنسي وإنهاء هجرة المهاجرين المسلمين إلى أوروبا.
وضمن هذا السياق تكمن الصعوبة في أنَّ هناك حقائق معيَّنة تدفع إلى هذه المطالبات المبالغ فيها وإلى النقاشات الخاطئة. ما من شكّ في أنَّ القتلة كانوا على علاقة مع متطرِّفين سُنَّة في المشرق واليمن. فقد عبَّروا عن دوافع الانتقام الخاصة بهم وقاموا وفقًا لها بقتل ضحاياهم انطلاقًا من "مسألة إيمان عالمية". الأمر يبدو واضحًا: "فالقتلة ينتمون إلى "الإرهاب الإسلاموي العالمي".
ولكن مع ذلك ففي هذه القناعات المنتشرة في كلِّ مكان تضيع اعتبارات أخرى. ولذلك يتعيَّن أن يتم طرح السؤال عما إذا كان يجب علينا لتحليل جرائم القتل التي وقعت في باريس أن نستخدم فقط التصريحات التي علَّل من خلالها المهاجمون الإسلامويون جرائمهم: "الله أكبر - لقد انتقمنا للنبي". وهل يجب علينا أن نقتصر على دعم ذلك ببعض الحقائق، التي تتعلَّق بالإعداد لهذه الجريمة - مثل قول أحد الجناة: "لقد كنت مع تنظيم القاعدة في اليمن"؟
أبناء تاريخ الاستعمار الفرنسي
ومن أجل تحليل الأسباب يعتبر السؤال حول هوية الجناة أهم بكثير مما كان يُصَرِّح به القتلة وبمَنْ وفي أية أمكنة قد التقوا بغية الإعداد لهذه الجريمة: سعيد وشريف كواشي هما شقيقان وُلدا في فرنسا لأبوين مهاجرين جزائريين. وبناءً على ذلك فهما من أبناء تاريخ الاستعمار الفرنسي. لقد كان هذا الفصل من تاريخ فرنسا دمويًا للغاية وأسفر عن عواقب وخيمة، لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا.
كان من بين الظواهر التي رافقت الحرب الجزائرية في الفترة من عام 1954 وحتى عام 1962 هجرة أعداد كبيرة من الجزائريين إلى فرنسا، وليس فقط بمساعدة العملاء المتعاونين في صفوف قوَّات الجيش والشرطة الفرنسية. وعلى وجه التحديد كان هؤلاء المهاجرون أبناء نظام فصل عنصري تم تطويره عبر عقود من الزمن.
وبالمقارنة مع "العمَّال الوافدين" الأتراك في ألمانيا فقد كان الانخراط في المجتمع أمرًا أصعب بكثير بالنسبة للمهاجرين الجزائريين في فرنسا. فعملية "دمج" المهاجرين القادمين من شمال أفريقيا - أي معالجة الإرث الاستعماري - سارت في فرنسا على نحو سيء للغاية.
التحالف مع جنرالات الجزائر
ومما زاد الأمر صعوبة أنَّ الإسلام السياسي في صورته الجزائرية الخاصة بدأ يمتد منذ الثمانينيات متمثلاً في "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" FISعبر البحر الأبيض المتوسط إلى أوساط المهاجرين. وكان الإسلاميون الجزائريون يعارضون حكم الجنرالات في الجزائر، أي ورثة جبهة التحرير الوطني الجزائرية. فقد تصالح هؤلاء الجنرالات مع باريس وتمكَّنوا من أن يضمنوا لأنفسهم دعم الحكومة الفرنسية، وذلك عندما كانوا يواجهون الإسلاميين بعنف مفرط.
لا نعرف كيف كان الأخوان كواشي ينظران إلى تاريخ الاستعمار الفرنسي في الجزائر. ولهذا السبب فسيكون من باب التكهُّن الادِّعاء بأنَّ الجناة كانوا يريدون الانتقام بسبب تاريخ الاستعمار الفرنسي. ولكن في الحقيقة فإنَّ السياسيين البعيدي النظر يدركون أنَّ هذا العمل الدموي الذي وقع في باريس لا يكفي تفسيره فقط بـ"الإرهاب الإسلاموي العالمي" وتأثيره الأيديولوجي.
ما من شكّ في أنَّ التراجع عن الأخطاء المرتكبة في سياسات شؤون الاندماج الفرنسية في الخمسينيات والستينيات لم يعد أمرًا ممكنًا. ولكن مع ذلك من الضروري الآن أن يتم على نحو تدريجي وبشكل مستمر القضاء على التداعيات الكارثية المترتِّبة في وقت لاحق على هذا الإرث - أي التهميش والتمييز بحقِّ المهاجرين القادمين من شمال أفريقيا وأبنائهم.
ولن يكون هذا الأمر ممكنًا إلاَّ عندما يفهم أصحاب القرار وصنَّاع الرأي الفرنسيون الوضع في الضواحي الفرنسية والغيتوهات على أنَّه مشكلة اجتماعية أكثر من كونها مشكلة تتعلق بالمحافظة على الهوية الوطنية أو الأوروبية.
شتيفان بوخن
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: قنطرة 2015