يحاربون من أجل الحرية في برلين صاحبة الروح الحرة
٢٠ يوليو ٢٠١٣على الرغم من ثقل حقائبي التي كانت تثقلني إلى أسفل وأنا أصعد السلم لدخول أول شقة لي في برلين، فقد شعرت بنفسي كريشة تحلق في السماء. كنت سعيدا جدا بانتقالي إلى العاصمة الألمانية، فهي مدينة تنبض بالحياة وتمنحني الحرية لاستكمال مساري على الشكل الذي أريده، كما أن مستوى المعيشة معقول مقارنة بلندن التي لم أستطع تحمل تكاليف العيش فيها.
قبل حوالي عامين، وأنا أقف على حافة ساحة مظلمة في برلين المزدحمة متفاعلا مع إيقاع الموسيقى وأصوات الموسيقى التصويرية خلال ليلة الجمعة في منطقة بديلة للكروزبرغ – في تلك اللحظة أدركت كم أقدر الحرية وأحبها.
وهذا هو السبب الذي يجعل الكثير من الناس يأتون للاستقرار في برلين، لأنها تمنحك حرية الاحتفال، حرية اختيار أسلوب حياتك وحرية العيش من دون اضطهاد.
هنا التقيت بأوستن. وهو هنا في برلين ليس من أجل الاستمتاع بالأجواء الاحتفالية في واحدة من أكثر مدن أوروبا شهرة وارتيادا من طرف السياح، لكنه جاء من أجل الاحتجاج ضد فرض مكان محدد للإقامة، ذلك أن القانون الألماني يحرم اللاجئين من حرية التنقل.
وينص القانون على أنه يتعين عليهم البقاء في مراكز احتجاز اللاجئين التي تم وضعهم فيها، وهو يقول بأنه قادم من نيجيريا هربا من أعمال العنف التي كانت تهدد حياته، وهو الآن يعيش في مخيم للاجئين بالقرب من شتوتغارت في جنوب غرب البلاد.
″أنا هنا منذ سنة وثمانية أشهر″ كما يحكي لي ″أنا أعيش في غرفة واحدة رفقة الكثير من اللاجئين، لا أستطيع أن أعمل ولا أستطيع أن أذهب للمدرسة″ حسب قوله مضيفا أنه في انتظار معالجة طلب لجوئه من طرف السلطات الألمانية لتبتَ فيه.
الباحثون عن اللجوء
نظرا للإيجارات المنخفضة وارتفاع مستويات المعيشة، فإن برلين تعد مقصدا للطلبة وعشاق المتعة والتجديد الذين يبحثون عن نمط عيش مريح، إضافة إلى الإثارة والتدفق الكثيف على هذه المدينة الأوروبية. وفضلا عن جذب المهاجرين، الذين هم مثلي يبحثون عن سكن بعيدا عن أوطانهم، فإن برلين تشد إليها أولئك الذين يطلبون اللجوء هربا من الصراعات والعنف في بلدانهم الأصلية.
ووفقا للأرقام الصادرة عن الأمم المتحدة فإنه هناك حوالي 85560 طالبي لجوء ينتظرون أن يتم النظر في طلباتهم من طرف السلطات الألمانية. وخلال سنة 2012 تمت الموافقة على 3582 طلب لجوء في مدينة برلين وحدها وفقا للمكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين، وهم من ضحايا التهجير القسري في نيجيريا، السودان، مالي، العراق، صربيا وأماكن أخرى. و قد لاذ هؤلاء اللاجئون إلى ألمانيا بحثا عن بداية مشوار حياة جديد.
لكن ما يجدونه هو فقط غرف مهجورة في برلين كانت سابقا مراكز شرطة أو مستشفيات أو مدارس، ويتقاسم خمسة منهم أو ستة النوم على سرير قابل للطي، كما أنهم لا يستطيعون الحصول على عمل، وكثيرا ما يمنعون من الذهاب للمدرسة من أجل تعلم اللغة الألمانية، وهذا ما يزيد من صعوبة اندماجهم في المجتمع، والكثير منهم أصبح يقول بأنه عانى بما فيه الكفاية ولم يعد قادرا على تحمل المزيد.
مدينة التناقضات
وجوههم شاحبة وتبدو عليهم الوحدانية، يرتدون سروايل الجينز وقمصان مهترئة، فوقها سترات رفيعة، يجلسون على كراسي مختلفة ورؤوسهم منكسة إلى الأرض، نظرات متعبة ومحبطة تنتشر في الساحة الخضراء، وخيام صغيرة وضعت بينها لافتات كتب عليها ″لا حدود، لا دولة، أوقفوا الترحيل″ وشعار ″لا يوجد إنسان غير قانوني″.
وعلى النقيض من هذا كله وخلافا لأصحاب الأجسام النحيلة والنظرات الحزينة، فهناك محبو الموسيقى والمتعة يحملون هواتفهم الذكية ويتجولون في ساحة الأورانيان المحاطة بالأناقة من كل جوانبها، والتي تعج بالحانات والمطاعم الفاخرة.
أصبح المخيم بمثابة مركز حرب ضروس تجري بين طالبي اللجوء المطالبين بمزيد من الحقوق والحرية لبناء حياة جديدة في بلد لا يستطيعون حتى الآن أن يعتبروا أن أنفسهم من أبنائه، وبين الدولة الألمانية – التي يجب عليها أن تظهر المزيد من التعاطف مع هؤلاء اللاجئين نظرا لماضيها المرير في هذه المسألة–.
وقد كانت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل قد تحدثت خلال هذا الشهر بمناسبة بدء أعمال الإنشاءات في مركز جديد للتوثيق حول ″ظاهرة الهجرة القسرية خلال القرن 20 الطرد والمصالحة″، المؤسس من طرف المؤسسة الاتحادية للطيران.
والمركز الذي يجري بناؤه في دوتشلاند هواس ( بيت ألمانيا) ، بالقرب من ساحة بوتسدام في برلين يضم معرضا دائما للألمان الذين تم تهجريهم بالقوة من منازلهم إبان الحرب العالمية الثانية. حيث تم تشريد حوالي 14 مليون مواطن وشخص ينتمون لألمانيا وللعرق الجرماني من ما أصبح يعرف الآن ببولندا وجمهورية التشيك إضافة إلى دول أوروبية أخرى، وقد واجه المطرودون ظروفا مروعة بما في ذلك الفقر والجوع والمرض، وفقدان حقوقهم المدنية والانفصال عن أحبائهم.
ووفقا للتقديرات فإن أعداد الأشخاص الذين لقوا حتفهم من جراء الترحيل والطرد تتراوح بين 500 ألف شخص ومليون شخص، كما أجبر العديد منهم على الخروج من منازلهم عندما كان الجيش الأحمر يتجه نحو برلين، كما تم طرد آخرين بعد هزيمة ألمانيا في الحرب وإعادة رسم الحدود الوطنية كجزء من اتفاق بوتسدام.
قلق الحاضر
آثار الحرب العالمية لا تزال ظاهرة في مدينة شيدت على جميع الفضاءات الفارغة فيها، بنايات بعد انفجارات الحرب العالمية الثانية، حيث مزقت مجتمعات بأكملها فهناك اليهود والغجر والمثليون وغيرهم كثير من الذين تم ترحيلهم خلال المحرقة.
على الرغم من أن هذه الفظائع أصبحت من الماضي، آمل أن مركز التوثيق الجديد يكون بمثابة وسيلة لتذكير الناس بأن الهجرة القسرية، ما زلت مستمرة ولم تنه بعد وتعتبر من القضايا المهمة في عصرنا الحالي حيث مازال الناس يرحلون من بيوتهم وأوطانهم هربا من الحرب والاضطهاد.
وفي كلمتها بمناسبة بداية بناء مركز برلين، قالت ميركل أنه فضلا عن كونه عبارة عن ذاكرة لتهجير الألمان، فإنه أيضا سيكون تعبيرا عن ″روح المصالحة الأوروبية″.
وباعتباري مواطنا أوروبيا فإني أعتبر نفسي محظوظا لكوني قادر على التحرك بحرية داخل الاتحاد الأوروبي، وهي الحرية التي أعطتني حق الانتقال إلى برلين والعمل فيها والحصول على منزل هنا، كما يسمح لي بالعودة إلى لندن متى شئت ذلك وبدون قيود.
برلين هي مدينة التنوع بامتياز، وهي ليبرالية وحرة في روحها بشكل لا يوجد حتى في المدن الأوروبية الأخرى.
هذه الحريات التي يعتبرها سكان برلين أمرا مفروغا منه وغير قابل للنقاش، فإن اللاجئين مازالوا يناضلون في مخيم أوريانين بلاتز على أمل أن يحصوا في يوم ما على نفس الحريات.