يوميات سورية: في ضيافة يوشع وعمر.. أيام في يبرود "المحررة"
٩ سبتمبر ٢٠١٢ خبأت كاميرتي في إحدى زوايا حقيبتي منتظرة موعد وصول حافلة دمشق ـ يبرود خارج الكراج المخصص للانطلاق خشية من نقطة التفتيش في مدخل الكراج، بعد أن بات التجول بكاميرا في سورية جريمة لا تغتفر.
بعد ساعة من انطلاق الحافلة أصل هدفي: مدينة يبرود، الواقعة شمال دمشق. يلسعني برد المنطقة المعتاد رغم الصيف. تأملت سلاسل جبال القلمون المحيطة بهذا الوادي لتأخذني من روعة طبيعة المكان لافتة كتب عليها "يبرود الحرة ترحب بكم".
ربما بات اعتيادياً بقاء عبارات تعبر عن مشاركة المناطق في الثورة السورية على مداخل المدن وشوارعها دون طلائها باللون الأسود، بعد أن كلّ وملّ عمال البلديات من ملاحقة "الرجل البخاخ" المنتشر في كل شارع سوري شهد مظاهرة على الأقل. لكن الإشارة إلى منطقة محررة يعني بالضرورة إقامة حاجز للجيش الحر على مدخل المدينة للتأكيد على أنها باتت تحت "سيطرة كتائب المعارضة" أو حاجز لجيش النظام، في حال تمت استعادة السيطرة عليها من قبل قوات النظام مجدداً.
الحياة في مدينة محررة
لم أنتظر أكثر من دقائق حتى وصل "جميل"، وهو ناشط من المكتب الإعلامي لتنسيقية مدينة يبرود، حسب موعدنا المتفق عليه خلال تواصلي معه دون أن نكون قد التقينا أو تعارفنا من قبل. كما أنه لا معرفة شخصية تجمعني بأحد هنا، بل تنسيق بسيط عن طريق صديق كان كافيا لاستضافتي لمدة يومين.
اقترح جميل أن نقوم بدايةً بجولة في المدينة. دهشت لتفاصيل الحياة هنا: الأسواق مكتظة بالبضائع والمتسوقين، الشوارع نظيفة، ولا وجود لمظاهر مسلحة إلا فيما ندر، وهي معطيات غير اعتيادية في منطقة أعلن ثوارها عن "حريتها" من وجود النظام وأجهزته الأمنية.
لكن مظاهر الثورة السلمية كثيفة وتملأ تفاصيل الحياة، وهي تبدو جلياً في العناية بالمرافق العامة من ترميم للساحات والشوارع وتزيينها برسومات ثورية وأعلام الاستقلال "رمز الثورة" وعبارات تعبر عن قيم الثورة اليبرودية ومفاهيمها. كما زينت جدران المدارس وجدار مقبرة المدينة والجدار الخارجي لكنيسة "يبرود"، التي تعد من أقدم المعالم الأثرية في سورية، بشعارات ورسومات عدة إلى جانب عبارة "قائدنا للأبد سيدنا محمد" وبالقرب منه صليب ضخم مشكل من تقاطع علمي استقلال.
لم يختلف مشهد الأرض فقط بل السماء أيضاً تحلق فيها الكثير من الطائرات، لكنها هنا ورقية ملونة بأشكال وألوان لا تخلو من طفولة ثورية، فالعديد منها أيضاً يمثل علم الاستقلال.
لون للشهادة ولونان للنصر
نصل تقاطعاً عند إحدى الساحات ليكون أيضاً المشهد برمته جديدا: بدءاً من إشارة المرور التي تحمل كلمات كتبت على ضوئها "الأحمر: الشهادة، الأصفر والأخضر: النصر"، كما تحمل الإشارة لوحاتٍ كتبت عليها عبارات مختلفة وهي مبادرة قام بها مجموعة من الشباب الناشطين والمهتمين بالجانب المدني، كما حدثني جميل. وكانت إحدى اللوحات تحمل عبارة "مؤيد أو معارض احترم نفسك باحترامي".
لمحت على زوايا الأرصفة وعند إشارات المرور مجموعة من الشبان يحملون هراوات مطاطية ويرتدون لباساً موحداً يحمل شعار "كتيبة الأمن الداخلي". لاحظ جميل علامات التعجب على وجهي فقال: "هؤلاء كتيبة منظمة عملها ضمن المدينة، لكنه يقتصر على تنظيم المرور وحل الخلافات بين المواطنين ومنع وجود مظاهر مسلحة داخل المدينة"
يوشع وصلاة المسلمين
اصطحبني جميل إلى منزل صديقه الناشط "يوشع" لأبيت ليلتي عنده. وكانت جلسة التعارف معه وأسرته على "قعدة متة"، المشروب الرسمي في يبرود. وأكثر ما حدثني عنه يوشع هو طقس صلاة المسلمين فجر الجمعة وصديقه في الثورة "عمر".
وما إن حل فجر الجمعة حتى رافقني يوشع إلى مكان أداء الصلاة. وكما حدثني حقاً هو طقس خاص هنا، حيث يفرش شارع ما في أحد أحياء المدينة ويتوجه الشباب والشيوخ لأداء صلاة الصبح تحت السماء ويتخلل الصلاة ساعة من الدعاء والتضرع "لله" لنصرة الثورة وتقبل شهدائها. وعلى الرصيف الخلفي لمكان صلاتهم يقف عشرات الرجال من مختلف الفئات العمرية والأطفال من الطائفة المسيحية أفاقوا فجراً ليكونوا جنبا إلى جنب مع المسلمين .
ومع طلوع شمس النهار يبدأ نشاط شباب التنسيقية في حملتهم لإتمام حملات الرسم على الجدران لتزيين المرافق العامة. رافقتهم في جولتهم هذه أيضاً.
ظهر يوم الجمعة يبدأ يومي الثاني في يبرود. توجهت إلى السوق برفقة "يوشع" حيث الازدحام المروري والسكاني أمر مألوف، فمعظم عائلات المدينة من الطبقة الغنية والمتوسطة العليا. فالشوارع تعج بالسيارات الخاصة، أما الازدحام السكاني فيعود إلى أنه بعد أن كان تعداد سكان يبرود يقدر بحوالي 50000 نسمة، تضاعف العدد تقريباً بعد نزوح عائلات من مختلف المحافظات السورية إليها. وبفضل حسن الضيافة والرفاهية التي بمقدورهم تأمينها حسب ما وجدت. فناشطو الإغاثة هنا في حالة استنفار لما لا يقل عن 18 ساعة في اليوم من أجل تأمين مستلزمات العائلات النازحة. يتلقون في كل لحظة اتصالات "ضيوفهم" النازحين، ويلبون احتياجاتهم.
كانت السوق كما العادة مزدحمة، لكن المحل الأكثر ابتكاراً في زمن الثورة كان دكاناً صغيراً لا بضاعة فيه سوى شرائط من القماش الأبيض يلونها صاحب المحل بمستطيل أخضر وآخر أسود ويضع 3 نجمات حمراء في الوسط لينجز علماً على شكل أساور للمعصم، وتدعو أنغام أغاني "القاشوش" الصادحة من متجره المتواضع الفتيان والفتيات لاقتناء بضاعته.
تنمية ثقافة المواطنة
بينما يبحث من يرغب بالتسوق عن حاجاته في محلاتها الكثيرة، تضج إحدى الحارات القريبة بأصوات تنطلق من مكبرات الصوت حيث تقام مظاهرة مناهضة للنظام. اتجهنا نحوها وكان مئات النساء والشباب والأطفال يحملون لافتات الثورة وأعلامها يغنون للحرية بالرغم من أنهم يعيشونها تماماً، لكن التضامن مع مناطق بعيدة عنهم هو شعور من الالتزام الأخلاقي هنا.
أصرّ يوشع على أن يعرفني على "عمر" إذ يعتبره أهم ناشطي يبرود. قصدنا أحد المنازل حيث يجتمع "عمر" وأصدقاؤه، في جلسة ثورية، هنا ما من سمة محددة للأصدقاء إلا النزعة للحرية. الأعمار تتفاوت ما بين العشرين والستين، والغالبية من حملة الشهادات الجامعية: أطباء ومهندسون وإعلاميون... والأحاديث تدور حول أهمية المواضيع التي من المقرر نشرها في صحفهم الثورية وتأمين احتياجات النازحين ومتابعة سير عمل المؤسسات الحكومية حيث لا رقيب عليها، ومختلف الأمور التنظيمية، لكن الأكثر أهمية بالنسبة لهم هو التأكيد على تنمية ثقافة المواطنة وتمكين الناشطين من المفاهيم السياسية.
وطن للجميع
عمر كاتب وإعلامي، في حياته الشخصية مؤمن وينطلق من عقيدته فيما يعمل، وفي الثورة يرى الليبرالية هي الحل لبناء سورية المستقبل. كان أكثر ما حدثني عنه هو "إفطار الكنيسة"، حيث دعا رجال الدين في الكنيسة الثوار والناشطين للإفطار فيها خلال شهر رمضان.
ودعاني لنقوم بجولة في صباح اليوم التالي بالرغم من أنني كنت قد خططت للعودة إلى دمشق، لكن تفاصيل الحياة في مدينة تعيش ما بعد نظام حكم "الأسد" ويعمل ناشطوها ويخططون لثورتهم التي تقوم انطلاقاً على ما بعد سقوط النظام، كان كافياً لقراري بتمديد مدة زيارتي.
صباح اليوم التالي صحبني عمر في جولة إلى المغاور والكهوف الأثرية، وادي اسكفتا والحي الأثري. حدثني عن عشقه لمدينته، وقال: تأملي جيداً، عليك أن تدركي جمال يبرود وتعلمي أننا مهما تعرضنا للقصف والاعتقالات لن نغادرها، نحيا هنا لنعمرها أو نموت فيها.
دامت زيارتي لمدة أسبوع، لم أكن أرغب بمغادرة يبرود بعد أن شعرت بالانتماء إليها وسحرني فيها جمال الطبيعة والسكان والفكر. فيها ما هو أكثر من اللاطائفية. يوشع يقول من حق الإسلاميين أن يحكموا البلاد فالإسلام غالبية، وعمر يقول ليس من حق أحد أن يلغي الآخر، فالوطن وطن الجميع والحكم للانتخابات الديمقراطية. فيها ما هو أكثر من الثورة فالهاجس هو بناء "سورية الفاضلة"، وإنماء روح المحبة للآخر والوطن. ودّعت يبرود بحزن لفراق سلامها، وعدت إلى دمشق وحروبها وأنباء أرقام الموت اليومي المخيف فيها.