100 على اتفاقية فرساي "المذلة".. عقوبات قاسية على ألمانيا
٢٨ يونيو ٢٠١٩نعود بالتاريخ إلى عام 1919 عندما كانت ألمانيا قد خرجت للتو من الثورة العارمة ضد النظام القيصري الذي خسر الحرب العالمية الأولى وبعد إعلان النظام الجمهوري في البلاد. مستشار الرايخ الالماني آنذاك فيليب شايدمان، وهو من قيادات الجزب الاشتراكي الديمقراطي، الذي أعلن الجمهورية في التاسع من تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 1919 يعبر بكلمات بسيطة عن المزاج الشعبي في البلاد إزاء اتفاقية فرساي التي أعلنت نهاية الحرب وحملت ألمانيا ودول المحور مسؤولية الحرب وفرضت عليها تعويضات مالية هائلة، وضعت عمليا قدرات البلاد الاقتصادية والصناعية والعلمية تحت تصرف الحلفاء المنتصرين في الحرب ومنعت ألمانيا من التصرف بها أو ممارسة السيادة عليها، قال شايدمان آنذاك " شُلّت الأيادي التي وضعت الأغلال علينا وعلى ألمانيا".
شايدمان كان يقصد بذلك تلك القوى القومية التي تسببت في الحرب العالمية الأولى وويلاتها ودفعت ألمانيا ثمنها غاليا. المزاج الشعبي الألماني كان برمته ضد اتفاقية فرساي والتي ظهر لاحقا أنها تشكل عبئا ثقيلا لديمقراطية فتية خرجت للتو من عباءة نظام قيصري شمولي.
فرضت الاتفاقية على ألمانيا آنذاك دفع تعويضات هائلة بمليارات الماركات الألمانية في ذلك الوقت. كما خسرت ألمانيا تقريبا كل مستعمراتها في أفريقيا وآسيا وفي المحيط الهادئ، إلى جانب خسارتها لأجزاء من أراضيها، في الجنوب الغربي استقطعت منطقة الألزاس واللورين لصالح فرنسا. وفي الشمال الشرقي استقطعت منها منطقة غرب بروسيا لصالح بولندا. كما أعلن الحلفاء المنتصرون في الحرب، الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا والدول المتحالفة معها أن مسؤولية إعلان الحرب تقع فقط على عاتق ألمانيا وحلفائها. وبذلك حملوا ألمانيا مسؤولية البدء بالحرب وعليها تحمل مسؤولية دفع التعويضات كاملة.
ورغم الاحتجاجات الألمانية آنذاك على الشروط القاسية لإنهاء الحرب، تم التوقيع على الاتفاقية في 28 من حزيران/ يونيو من عام 1919 ودون حضور المستشار الألماني شايدمان الذي استقال قبل ذلك من منصبه. لكن وبعد تهديد المنتصرين في الحرب بغزو ألمانيا، اضطرت الأخيرة إلى التوقيع على الاتفاقية. وكانت منطقة حوض الراين من جهة الغرب محتلة منذ وقف إطلاق النار في الـ 11 من تشرين الثاني/ نوفمبر 1918. وبسبب الشروط القاسية في الاتفاقية، كان الألمان ينظرون إلهيا باعتبارها اتفاقية مفروضة عليهم ويصفونها باتفاقية "سلام الإملاءات". ويقول المؤرخ ايكارت كونزه، الأستاذ في جامعة ماربورغ الألمانية، إن الانتقادات الموجهة للاتفاقية "محقة دون شك". ويضيف لـ DW "أن الألمان لم يشاركوا في مفاوضات السلام ولم يشاركوا بذلك في صياغة الاتفاقية أيضا".
تخفبف حدة شروط "سلام الإملاءات"
رغم الشروط القاسية التي فرضتها اتفاقية فرساي على ألمانيا، تمكنت من البقاء كدولة قومية قوية وسط أوروبا. ففي البداية لم يتم تحديد حجم التعويضات التي كان يفترض أن تدفعها ألمانيا للدول المنتصرة. لذلك بقيت التقديرات رهن قوة ألمانيا المالية والصناعية والتي كانت متذبذبة ما بين مرتفعة ومنخفضة، وحسب تقلبات السوق العالمية. ففي عام 1921 حددت دول الحلفاء مبلغ 132 مليار مارك ألماني كسقف للتعويضات. لكن ألمانيا تمكنت من خفض المبلغ من خلال المفاوضات اللاحقة إلى 36 مليار مارك. لكن وبسبب الأزمة المالية العالمية عام 1932 توقفت ألمانيا عن دفع التعويضات تماما، كما يذكر المؤرخ كونزه، حيث شكل ذلك التطور حدثا إيجابيا بالنسبة لألمانيا.
ورغم ذلك التطور، سياسيا كانت ألمانيا آنذاك على حافة الهاوية. فالديمقراطية الفتية كانت تواجه مؤامرات ودسائس أعدائها من الملكيين والاشتراكيين القوميين "النازيين"، كل هؤلاء كانوا يحاربون الجمهورية بمختلف الوسائل لإسقاطها منذ اليوم الأول لإعلانها. ففي نظر هؤلاء، كانت القوى الديمقراطية هي المسؤولة عن نتائج مؤتمر السلام في فرساي القاسية على ألمانيا، وليست القوى السلطوية في العهد القيصري المباد. ويقول المؤرخ كونزه إن حجج أعداء الجمهورية كانت قوية التأثير على المواطنين، لأن معظم المواطنين كانوا يرفضون اتفاقية فرساي بشكل شبه جماعي.
هتلر تجاهل اتفاقية فرساي تماما
لكن الطريق لم يكن معبدا بشكل مباشر لصعود الديكتاتورية النازية في عام 1933. فبالنسبة للمواطنين عموما حتى في عام توقيع الاتفاقية 1919 كانت الآفاق نحو المستقبل مفتوحة. لكن أعداء الجمهورية وظفوا اتفاقية فرساي لأغراضهم السياسية وبهدف القضاء على النظام الديمقراطي. فقد كانت الاغتيالات السياسية شائعة، حيث كان من أبرز ضحاياها وزير الخارجية في ذلك الوقت فالتر راتناو الذي تم اغتياله عام 1922 من قبل يميني متطرف في برلين. فقد كان الوزير يمثل بالنسبة لليمين المتطرف رمزا من رموز ما كانوا يطلقون عليه آنذاك "سياسة الخضوع للمنتصرين في الحرب" بعد الحرب العالمية الأولى.
ويجب القول إن اتفاقية فرساي لم تحقق سلاما مستديما، فباستلام هتلر للسطلة في ألمانيا، انتهى عهد التحفظ الألماني في التعامل مع أوروبا. فالنازيون أطلقوا حملة تسلح واسعة رغم منعها من قبل الاتفاقية، كما عقدوا تحالفات مع دول فاشية مثل إيطاليا وإسبانيا. إلى ذلك لم تأت سياسة بريطانيا في تجاهل ذلك أو التقليل من شأنها بأكلها وأمريكا لم تكن تلعب دورا يذكر في أوروبا بعد. كما كانت منظمة عصبة الأمم التي شكلها الحلفاء في إطار اتفاقية فرساي للسلام ضعيفة وغير قادرة على منع كارثة عالمية أخرى.
ماكرون يحذر من إحياء "قوى الشر القديمة"
ويتناول المؤرخ أيكارد كونزه سبب فشل اتفاقية فرساي في تحقيق سلام مستديم في كتابه الذي صدر بعنوان " الوهم الكبير.. فرساي عام 1919 والنظام العالمي الجديد"، فيشير إلى أنه في نهاية الحرب العالمية الثانية حاول الحلفاء المنتصرون أن يستفيدوا من أخطاء عام 1918. ومن بينها مثلا شرط الاستسلام الكامل دون قيد أو شرط للجيش الألماني "فيرماخت" وتولي الحلفاء إدارة البلاد على أعلى المستويات. ولكن الأهم من كل ذلك هو العمل بعد عام 1945 من أجل تطوير وتشكيل هيئات ومؤسسات دولية قادرة على منع الوقوع في المواجهات القومية أو منع الخطوات الأحادية الجانب على المستوى العالمي.
ويقول المؤرخ كونزه "على الأقل تمكن العالم الغربي تحت قيادة الولايات المتحدة من تطوير منظمات متعددة القوميات ووضع قواعد عمل ونظام عالمي". ويبدو أن النظام الغربي امتد إلى أجزاء واسعة من العالم بعد سقوط جدار برلين في عام 1989 ونهاية الحرب الباردة في أوروبا. ويضيف كونزه " لكن النظام العالمي يواجه اليوم تحديات كبيرة أكثر من ذي قبل". فهناك صعود قومي جديد وسياسات أحادية مفعمة بروح الشعبوية والسلطوية تهدد استقرار النظام العالمي. ولهذا السبب حذر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من مغبة إحياء "قوى الشر القديمة" التي كانت حاضرة في الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. ولهذا السبب تحافظ اتفاقية فرساي على تأثيرها حتى اليوم.
مارسيل فورستتناو/ حسن ع. حسين