1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

السريان: لون واضح في ثقافة العراق 2

١٠ نوفمبر ٢٠١١

يستمر أحمد خالص الشعلان بتأكيده على المشتركات بين العربية و السريانية، وعلى وجود تواصل و امتداد بين أرثي اللغتين في زويا الرؤية التاريخية ناجم عن تجاور اللغتين و تطورهما في التفاصيل اليومية للمجتمعين اللذين يتحدثان بهما.

صورة من: AP

ثقافات ميزوبوتاميا بعد الغزو الإسلامي

ان أية مراجعة لدور السريان في الثقافة العراقية في ما بعد الغزو الإسلامي للعراق ستبين، دون ريب، تراجعا للدور السرياني في الثقافة العراقية، مقارنة بما كانت تتمتع به هذه الثقافة، على الرغم من تناقضاتها الداخلية الجدلية، من تسيد في المشهد الثقافي قبل ذلك الغزو. و لكن تسيدها ذاك كان انتشارا لا سطوة، اذ كان دورها هو ألأبرز، تتعايش فيه مع الثقافات السائدة ألأخرى من يهودية و وثنية و ثنوية و زرادشتية و غيرها، مما تعج به البقعة الجغرافية من ثقافات.

و لم يترك التغير الدراماتيكي المفاجئ في المشهد السياسي العراقي، الناجم عن الغزو الإسلامي، آثارا تتعلق بالثقافة فحسب، بل تعدته إلى علاقة السريان بالحاكم. فمهما تذرع به هذا الحاكم، لأسباب دعائية، مما يخترعه، لكي يوهم به الآخر، من استثناءات و مزايا زعم أنه يقدمها لمن سماهم "اهل الكتاب"، متمثلة بما يتظاهر به بالعلن مما يسمى روح التسامح مع الثقافات الكتابية ألأخرى، لكنه في أروقته الخاصة و تكاياه العقائدية و السياسية ظل ينظر بريبة، بل و في أغلب ألأحيان بعدائية سافرة، تجاه أية ثقافة أخرى يجد فيها اختلافا لعقيدته الخاصة. و الا فكيف، يا ترى، نفسر تلك السياسات الصارمة التي ظلت سارية منذ الغزو الجزيري الاسلامي للعراق و لغاية نهاية حكم العثمانيين في العراق، ضد أهل الثقافات ألأخرى، و من بينها السريانية، باجبار أهل تلك الثقافات بارتداء لباس معين يميزهم عن المسلمين، ناهيك عن أنهم كان يفرض عليهم النزول عن راحلاتهم ليسيروا أمامها عند دخولهم لحواضر العرب المسلمين؟!

و على الرغم من قول هيغل المشهور الآنف ذكره عن التاريخ، فالمرء لا يستطيع دائما أن يلوي عنق التاريخ، لكي يبرر سياساته و تصرفاته و سياقاته الى ألأبد. اذ على الرغم من نهج الإقصاء للاثنيات من أهل البلد الذي غزاه العرب المسلمون، فان احتياجات التطور و متطلباته كانت، و ان في حالات نادرة جدا، تفرض على الحاكم المسلم اتباع نهج برغماتي يتنازل فيه عن بعض اشتراطات عقيدته الدينية، فتشهد حقبة حكمه انفتاحا على الثقافات الاثنية.

ثقافة السريان في ظل خلافة عمر بن عيد العزيز

و مثلما ظهر هناك في عهد الأمويين في بلاد الشام عمر بن عبد العزيز، ذاك الخليفة الذي اراد أن يخرج من غلواء ميتافيزيقيا عقيدته الدينية الى رحاب الفلسفة، كانت محاولته تلك في زمانه قد وفرت فرصة للثقافة السريانية لكي تتنفس دورا مهما في تاريخ الحضارة الإسلامية، حين استعان ذاك الخليفة بالسريان، ليمهد بذلك لوجود دور مهم للسريان في تاريخ المنطقة، و ذلك بترجمة علوم ألأمم ألأخرى كان العرب بأمس الحاجة اليها لاستكمال أطر دولتهم الناهضة. تهيأ فيما بعد هنا في العراق ايضا للسريان و ثقافتهم، بوصفهم أمة مبدعة و ناقلة في آن، حاكم عباسي، هو الخليفة المأمون، الذي كان هو الآخر يروم الخروج من عنق زجاجة الغلواء الميتافيزيقية لعقيدته الدينية، متأثرا بآراء الفرقة المعتزلية، التي كان مريدوها في زمنه سباقين و بجرأة في وضع منزلة للعقل تفوق المنزلة التي يتمتع بها مبدأ الايمان بالله، وهي دون ريب أولى خطوات نهج تكون حصيلته بالتالي الانفتاح على ألآخر المختلف. فكان في تلك الانعطافة التاريخية في العقل العربي الاسلامي للسريان و الثقافة السريانية دور حاسم، يرتقي الى مرتبة الفضل، فهيأوا، بهذا القدر أو ذاك، لبلورة التفكير الفلسفي عند العرب المسلمين، حين راحوا ينقلون من الاغريقية و اللاتينية الانجازات العقلية للفلاسفة و العلماء الاغريق في الطب و الفلسفة و الرياضيات و الفيزياء و الكيمياء و الموسيقى و ألأدب، فوضعوا بعملهم ذاك التفكير العربي الإسلامي على أكثر من مفترق طرق مصيري في التفكير، و لأكثر من مرة، بما يغني لا حضارة و ثقافة العرب المسلمين آنذاك فحسب ، بل لكي يمهدوا، بمأثرتهم تلك، لعودة التفكير الفلسفي الى أوروبا نفسها بعد أن ألغته الكنيسة قرونا، فأكتسب عملهم ذاك بعدا تاريخيا إنسانيا خالدا. هذا عدا دور المثقفين السريان في ذلك الزمان أطباء و علماء و موسيقيين في الحياة العامة. و كان في كل هذا، برأيي، ما يعد، عند العقل المنصف المستنير، وسام شرف تاريخي يعلق على صدر السريان و ثقافتهم، يستحقونه عن جدارة لقاء مأثرة قاموا بها. و هي مأثرة قلما يعترف بها العرب المسلمون، و إن اضطروا ليفعلوا ذلك، نراهم يعترفون بها على مضض، إلا في حالات نادرة جدا يكون فيها الضمير طرفا!

موقف حضاري قد يعيد ثقافة السريان الى الواجهة

حديثا، و مع بزوغ شمس الدولة العراقية الحديثة أوائل القرن العشرين، كان السريان، لأسباب لسنا هنا في وارد ذكرها، سباقين في طلب العلم. و سرعان ما تحولوا قبل غيرهم إلى أطباء و معلمين و مصرفيين و موظفين ذوي خبرة، ليقوموا بدور في تقوية عود الدولة الوليدة. و كان لهم دور أيضا، ليس قليل الشأن، في نشاة الثقافة العراقية الحديثة، ساسة و كتابا و فنانين مسرحيين و موسيقيين.

و لكن نهجا موضوعيا إنسانيا تجاه الثقافة السريانية الغاية منه تبيان دور السريان في الثقافة العراقية، يتطلب قبل كل شيء، من الآخر غير السرياني، انتصارا على الذات. و ذلك، بان يقبل السرياني مثلما هو. و صدق القائل "من لم يكن أخاك في الدين، فانه نظيرك في الخلق!". ذلك، لأن نهج عدم المساواة و التمييز الذي انطبعت به سياسة الحاكم المسلم، في تفصيلاتها الصغيرة و ليس في نهجها العام المعلن، تجاه الاثنيات، لم تكن، و ما تزال، لتهيئ دورا يليق بالسريان في الثقافة العراقية، و يتناسب و الكتلة الديموغرافية للمتحدثين بالسريانية. و كان غياب الحرية دوما عاملا إضافيا أدى الى تحجيم دور السريان هذا. و لن تتحق للسريان فرصة يقومون بها بدور يتناسب و مكانتهم التاريخية في الثقافة العراقية، الا في تبلور موقف "حضاري" يتشكل في نفسية الطاقم الحاكم المسلم.

في مؤلفه الموسوم "قصة الحضارة"، يعرف ويل ديورانت مفهوم "الحضاري" قائلا: "الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي. و عناصر الحضارة أربعة هي: الموارد الاقتصادية، و النظم السياسية، و التقاليد الخلقية، و متابعة العلوم و الفنون". و لم يجانب ديورانت الصواب حين لم يضمّن الدين عنصرا من عناصر الحضارة. فهو يدري، و نحن أيضا ندري، بأن تلك العناصر المذكورة آنفا هي جميعا، من الناحية التاريخية، سابقة للدين، و الدين ما هو الا نتاج لها. اذن، فأية محاولة لمعرفة حجم الدور الذي قام به السريان في الثقافة العراقية، لا بد لها أولا أن تطرح العقيدة الدينية من الحساب مقياسا للعلاقة الإنسانية، و لا بد لها بعد ذلك المرور أولا بالمكانة الحقيقية، ايجابا و سلبا، التي تمتع بها السريان، بعد الغزو الجزيري الإسلامي للعراق، في المنظومة الاقتصادية، و النظام السياسي، و التقاليد الأخلاقية، و أنشطة الفنون و العلوم، التي شكلت ما عرف بـ"الحضارة العربية الإسلامية في العراق"، حتى في وضعها الراهن.

هل صار السريان هنودا حمرا عراقيين!؟

و أخيرا و ليس آخرا، نحن أعلم بحجم قيراط الإيجاب الذي عومل به السريان، أهل العراق الأصليين، و ثقافتهم إزاء قناطير السلب التي عوملوا بها، و عوملت بها ثقافتهم، لدرجة أن المرء يقفز الى ذهنه عفويا سؤال مفاده "هل صار السريان هنودا حمرا عراقيين!؟". و إلا فكيف نفسر ما يجري اليوم من تهجير و قسر ضد السريان و الثقافة السريانية إلى حد الدعوة إلى وضعهم في كانتونات! و لم يعدم الغزاة الذرائع على مر القرون!

نحن بانتظار اليوم الذي نرى في مدينة كربلاء قبل غيرها مسرحية يكون بطلها ألأول الحر الرياحي، لا غيره، ذاك السرياني المستشهد في نصرة الحسين و مات من أجله، بانتقاله في موقفه، لأسباب إنسانية بحتة تفوق في أخلاقيتها الدوافع السياسية للمعركة، من معسكر رابح لا محالة بالقياسات القتالية إلى معسكر خاسر لا محالة!

و نحن بانتظار أن يسمح للسريان ببناء كنيسة مقابل مرقد أبي حنيفة النعمان في أعظمية بغداد أو مقابل مرقدي الجوادين في كاظمية بغداد!

آنئذ، و آنئذ فقط، سنقول بأن السريان العراقيين لم يعودوا "هنودا حمرا"!

(ألقيت هذه المحاضرة في الحلقة النقاشية " دور السريان في الثقافة العراقية " المنعقدة في أربيل – كردستان – العراق للمدة 21-24 تشرين ألأول 2011 ) الجزء الثاني

أحمد خالص الشعلان

مراجعة ملهم الملائكة

تخطي إلى الجزء التالي موضوع DW الرئيسي

موضوع DW الرئيسي

تخطي إلى الجزء التالي المزيد من الموضوعات من DW

المزيد من الموضوعات من DW